منتديات اليسير للمكتبات وتقنية المعلومات

منتديات اليسير للمكتبات وتقنية المعلومات (http://alyaseer.net/vb/forum.php)
-   عروض الكتب والإصدارات المتخصصة في مجال المكتبات والمعلومات (http://alyaseer.net/vb/forumdisplay.php?f=16)
-   -   أدب الأطفال وتجربة ثقافة الطفل : الواقع والآمال (http://alyaseer.net/vb/showthread.php?t=7789)

د.محمود قطر Feb-04-2007 10:51 PM

أدب الأطفال وتجربة ثقافة الطفل : الواقع والآمال
 
كتاب " التنمية الثقافية للطفل العربي"
تأليف / د. عبد الله أبو هيف
المقدمة
إذا كانت الحاجة للتنمية الثقافية العربية ضرورة ضاغطة وملحة، فإن تنمية ثقافة الطفل العربي أكثر ضغطاً وإلحاحاً، ففي عمليات إنتاجها وإعادة إنتاجها تظهر سطوة الاتصالات الجبارة المهيمنة، وامتدادها إلى المعلوماتية التي ضاعفت تأثيرها سلباً، فليس هذا التأثير كله مستحباً ونافعاً، وما لم يرشّد استخدامهما معاً، أقصد الاتصالات والمعلوماتية، فإن علائم الخطر كامنة وقابلة للظهور صاعقة ومدمرة للتكوين الإنساني النبيل، وتنطلق أبحاث هذا الكتاب ومقالاته من هذه الروحية الصلبة التي تؤمن بمكانة ثقافة الأطفال المتنامية على مشارف الألفية الثالثة، ومن الإقرار بالنهوض الذي شهده ربع القرن الأخير في الكتابة للطفل العربي، فثمة وفرة في مخاطبته عبر وسائط ثقافية كانت غائبة أو مهملة قبل ذلك، كما هو الحال في انتشار مجلات الطفل وصحفه، وتخصيصه بقنوات اتصال يومية عبر القنوات الأرضية والفضائية، بل إنه ثمة قنوات اتصالية خاصة به، وفي غالبية قنوات البث الإذاعي المسموع، وفي نشر ثقافته الكترونياً عبر تقانة المعلومات المتطورة، كالإنترنت والكتاب الإلكتروني والثقافة الرقمية على وجه العموم، على أن نهوض ثقافة الأطفال يتبدى جلياً في ارتفاع الوعي بقضية ثقافة الأطفال بفنونها ووسائطها، نظرياً وتطبيقياً.‏
بيد أن هذا الإقرار بالنهوض الواضح لثقافة الطفل العربي، يدعونا إلى أهمية تطويره ومواجهة العقبات التي تحول دون انتشاره من أجل الحد من تفاقم مشكلاته القومية والتربوية والفنية والاتصالية، فتسعى هذه الأبحاث والمقالات، وما وسعتها المحاولة إلى ترشيد تجربة ثقافة الطفل العربي على مشارف الألفية الثالثة وتأصيلها في الثقافة العربية الحديثة، في آفاقها المختلفة.‏
لقد عاينت تجربة ثقافة الطفل العربي منذ ثلاثة عقود، كاتباً في مجالاتها، وناقداً لفنونها ووسائطها في الكتب والدوريات العربية، ومسؤولاً مسؤولية مستمرة عن تخطيطها وتوجيهها من خلال عملي الرسمي والثقافي والتربوي رئيساً لمكتب الثقافة والإعلام في قيادة منظمة الطلائع (الأطفال) في سورية التي تتعاون بأشكال متعددة، مع وزارة التربية وبقية الجهات المعنية الأخرى، إشرافاً وتنسيقاً من أجل تربية أفضل لمجموع أطفالنا. وآمل أن يعبر محتوى هذا الكتاب عن الشواغل العميقة والضاغطة علينا مما تضمنتها هذه المقاربات الواقعية لشؤون ثقافة الطفل العربي وأدبه. وثمة مقاربات كثيرة تعالج أول مرة، بهذا الشمول، ولاسيما المخاطر الجدية التي تواجه النهوض المرتجى، والسبل الكثيرة المرتبطة به التي تساعد على سيرورته وتأصيل مبدعاته، وتعين على تنمية أفضل لإعادة إنتاجه، كما هو الحال في الغزو الثقافي، والهوية القومية، والتربية الثقافية، وتكامل المؤسسات التربوية وأجهزة الثقافة ووسائل الإعلام في مخاطبة الطفل العربي. ولا يخفى أن أبحاث الكتاب ومقالاته عالجت شؤون ثقافة الطفل العربي وأدبه من رؤية الواقع، فكانت العناية بالمؤتمرات والتظاهرات الكبرى على امتداد الوطن العربي، مثل ندوة مهرجان ثقافة الطفل بالإمارات (1990)، أو ندوة مهرجان الجنادرية (1994)، أو مؤتمر القاهرة (1996)، أو مؤتمر تونس (1997) وسواها، لأنها تحمل الصورة الصادقة لهذا الاشتغال العربي العميق على تنمية ثقافة الطفل العربي وأدبه.‏
وغني عن القول إن غالبية أبحاث هذا الكتاب ومقالاته قد كتبت وألقيت في مؤتمرات ولقاءات ثقافية عربية وإقليمية. ومن المأمول أن يتيح نشرها مجموعة نظرة أفضل لتجربة ثقافة الطفل العربي وأدبه، في واقعها الناهض وفي آفاق تطويرها المنشودة.‏

المصدر
http://www.awu-dam.org/book/01/study...ok01-sd001.htm


د.محمود قطر Feb-04-2007 10:57 PM

الكتابة بوصفها استعارة‏
 
الباب الأول : في أدب الأطفال - الفصل الأول : الكتابة بوصفها استعارة‏
مقاربة نظرية لمفهوم الكتابة للأطفال واليافعين‏
تشير تجربة قرن من الزمن من الكتابة للطفل إلى أن ثمة تشكلاً لمفهوم أدب الأطفال يختلف عن مفهوم الأدب أو أدب الراشدين، واستخدم هذا المصطلح لضرورة التمييز والبحث، ويكمن هذا الاختلاف في الطبيعة التربوية لأدب الأطفال التي تنهض على خصوصيات نمائية ونفسية ومعرفية كثيرة، وتستدعي في الوقت نفسه اعتبارات فنية متعددة. ولاشك في أن تشكل الكتابة للطفل قد استكمل حدوده في أحضان المدرسة (التربية والتعليم) من جهة، وفي أحضان علم النفس، ومن ثم علم نفس الطفولة من جهة أخرى(1). وعندما حاولت أن أتقصى حدود نظرية أدب الأطفال، وجدت عنتاً شديداً في ذلك لدى غالبية المختصين وخبراء أدب الأطفال والمشتغلين بالتنظير له، وطرحت أفكاري بهذا الشأن على نخبة من هؤلاء المعنيين أثناء المؤتمر العالمي الثاني لأدب الأطفال (موسكو 1979) قبل أن أضع كتابي «أدب الأطفال نظرياً وتطبيقياً» (دمشق 1983). كان ثمة إقرار بالاختلاف في مفهوم أدب الأطفال أو الكتابة للأطفال، غير أن حدود النظرية ما تزال ملتبسة في وهاد التربية والفن، وما ينتج عنهما من علاقات متشابكة.‏
إن هذا البحث محاولة أخرى لمقاربة نظرية لمفهوم الكتابة للأطفال واليافعين تستكمل ما بدأته من قبل(2).‏
يستند الأدب، في نظريته، أساساً إلى الخيال، لأن صلب نسق تنضيد الكلمات في متن ما، هو المحاكاة أو تضافر الواقعي بتخييله، على أن هذا التضافر مشروط في أدب الأطفال بشروط تجعل هذا الأدب مجال استعارة برمته توائم إدراك الطفل (خياله ووعيه) ولغته (وسيلته للخيال والوعي)؛ والمعول في ذلك هو أن الاستعارة بديل لواقع، تصير معه إلى واقع جديد ميسور لعين الطفل وإحساسه ونموه المعرفي والنفسي والاتصالي؛ وما طبيعة الاستعارة بعد ذلك إلا مجموعة تحكميات تفعل فعلها في صوغ أدب الأطفال واستهدافه.‏
تنطلق النظرية من أن الطفل ليس راشداً لنخاطبه بقول الراشدين وتقانات خطابهم، وأنه، أي الطفل، في نموه وعمليات نموه ما يلبث أن يدخل شيئاً فشيئاً في عالم الراشدين، ويتخلى بذلك عن خصائص عالمه ووشاح الاستعارة الذي يظلل ما هو تواضع متفق عليه، أما صفات هذا التواضع المتفق عليه فهي كامنة في جوانب الإحاطة بطبيعة الاستعارة، وقوامها، بالنظر إلى الاعتبارات التربوية والنمائية، فكرة التعميم ونزعة الإطلاق؛ فالطفل لا يتعامل مع التاريخ والتراث الشعبي والأسطورة والمستقبل أو الحيوان والأشياء كما هي، بل كما تبدو أو تتراءى في وجدانه النامي.‏
وعلى هذا لا يتعرف الطفل (أو لا يخاطب) بالحقيقة التاريخية والواقعية في حوادثها أو إحداثياتها، في وقائعها أو سياقها الواقعي، بل في إطار استعارة شاملة لهذا النسق تكّون سياقها الواقعي بمنتهى التجريد في رحابة تخييل يبني واقعة الخاص أو الجديد.‏
إن السؤال دائماً في نظرية أدب الأطفال هو: ما حدود التربوي في المكتوب للأطفال، أو تجليات هذا المكتوب شفهياً أو عبر وسائط ثقافة الطفل؟ لقد بات واضحاً أن معضلة التفكير في مفهوم أدب الأطفال كامنة في إضاءة هذه الحدود داخل الفني والجمالي والمعرفي في تشكل الكتابة للأطفال. ولا شك، أن ثمة صعوبات كثيرة تحول دون نظرية أدب الأطفال بالنظر إلى وضعية العلوم الإنسانية، ولاسيما التربية وعلم النفس، فقد تعددت الاتجاهات التربوية بالاستناد إلى التطورات المذهلة في علم النفس أو علم نفس الطفل على وجه الخصوص. ولعل المسألة أعقد بكثير اليوم من نهاجية بياجيه في الإدراك، أو الاتفاق على اعتبارات تربوية تتعلق بسن المخاطب من الأطفال أو عمليات نموه الظاهرة؛ فقد داخل ذلك كلّه تأثيرات التطور التكنولوجي وثورة الاتصالات والتفجر المعلوماتي، مما أثار تحديات كبرى للكتابة للأطفال، خطاباً ثقافياً اتصالياً شديد الصلة بعملية إنتاج المجتمع برمته التي تواجه نفسها تحديات التنميط والعولمة في عالم صار إلى فضاء مفتوح على عيون الأطفال ومداركهم أيضاً.‏
ولا يماري أحد في قوة هذه التأثيرات وسرعتها على المعنيين بالكتابة للأطفال، فلا ينبغي أن نركن إلى الهدوء والرضى والاطمئنان في معرفتنا القاصرة عن الإحاطة أو المواكبة، لأن أدب الأطفال لم يعد كتاباً، بل أن الكتاب نفسه، وهو المصدر الرئيسي لثقافة الأطفال وأهم وسيط من وسائطها، تراجع كثيراً أمام وسائل الاتصال الجبارة المهيمنة على عمليات تشكيل عقول الصغار والكبار، ثم لم يعد الكتاب هو الكتاب المعروف، لأن الكتاب اليوم هو الكتاب الإلكتروني بما يعنيه من تحديات أخرى للكتابة للأطفال، كنا نتحدث قبل عقد من الزمن عن إشكاليات تفرزها معضلة التربية والفن، ولا شك، أننا نتحدث في نهايات قرن ومقبل قرن جديد، عن إشكاليات أخرى مضاعفة، وما هذا، البحث إلا مقاربة لمفهوم الكتابة لأطفال واليافعين في ظل هذه الوضعية.‏

1ـ إشكاليات تربوية:‏
هناك إشكاليات تربوية كثيرة، ولكنني اخترت الحديث عن إشكاليتين هما إشكالية الوعي والإدراك وإشكالية التاريخ والمجتمع:‏

1ـ1ـ إشكالية الوعي والإدراك:‏
عدّ اكتشاف مراحل النمو عند الأطفال سنداً وعوناً لدعاة إدغام التربية بالفنّ، غير أن المربين حولوا مراحل النمو إلى فزاعة أمام منتجي الكتابة للأطفال أو معيدي إنتاجها في الوسائط الثقافية المختلفة، ليصير معها المربون إلى كهنة يحتكرون مسؤولية إنتاج الكتابة للأطفال أو ترشيد إنتاجها. ثم جرى ربط مراحل النمو باعتبارات تربوية أخرى مثل الخصائص النفسية وما تورثه من فروق فردية، اجتماعية أو ثقافية أو إناسية .. الخ، والخصائص الإدراكية وما يتصل بها من نشاط المخيلة وملكة التفكير، أي أن المسألة كلها مرهونة بالوعي والإدراك بتعبير آخر، لمعرفة قدرات الأطفال العقلية وقابليات تعزيزها؛ والأهم مكانتها في مراحل النمو، وتثميرها في التنمية الثقافية على وجه العموم. ونحن واجدون أبحاثاً ومقالات حول التفكير وتنمية التفكير، ولكننا نفتقر للأبحاث والمقالات حول التفكير وتنمية التفكير في مراحل النمو عند الأطفال، ولا سيما الأطفال العرب. وعندما سعت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الاليكسو) إلى وضع خطة قومية لثقافة الطفل العربي دعت بعض المربين لكتابة بحث عن التربية وأثرها في تنمية التفكير العلمي لدى الطفل العربي، فكان بحثاً تربوياً عن مهارات التفكير وأنماط سلوك المعلمين في تعزيز تفكير الأطفال، والنمذجة نحو انسجام السلوك مع الأهداف، والمادة التعليمية محيطاً لتعليم التفكير وتنميته، وعمليات واستراتيجيات التعليم محيطاً لتنمية التفكير(3). أما دور الأطفال أنفسهم وتفاعلهم مع الخصائص الإدراكية فلم يلتفت إليه على النحو الذي يزيد من فاعلية الأطفال في إنتاج الكتابة إليهم.‏
لا ينبغي أن يكتفي بالبحوث الاستطلاعية حول تنمية التفكير؛ وتشير علاقة الأطفال بالمعلوماتية إلى انقلاب في فهم مراحل النمو عند الأطفال. والمعول في ذلك هو الدربة والمران والاكتساب من خلال تربية العقل إلى جانب تربية اليد.‏
لقد وضعوا خصائص لمراحل النمو من سن إلى أخرى، مثل مرحلة الواقعية والخيال المحدود بالبيئة، إلى مرحلة الخيال الحر، إلى مرحلة المغامرة والبطولة، إلى مرحلة اليقظة الجنسية، إلى مرحلة المثل العليا(4)؛ وعلى الرغم من الخلاف بين المربين وعلماء النفس في توصيف المراحل وذكر خصائصها، فإن التداخل بينّ بين مرحلة وأخرى، فقد أضافوا المرحلتين الأخيرتين، وهما لا تخصان الأطفال، وإذا ألحقنا مرحلة اليقظة الجنسية، فإن اقتران كل مرحلة بمستوى من التطور العقلي يجعل خصائص اليقظة الجنسية تنعطف بالطفولة إلى عالم آخر يختلف كثيراً عن عالم الأطفال؛ وهذه الانعطافة بالذات هي التي توضح مقدار الفرق بين سمات الكتابة للأطفال وسمات الكتابة للراشدين.‏
إن هذه السمات تتلاشى وتخف ملامحها وينتهي معها الوعي الخاص بالطفولة كلما اقترب الطفل من سن الرشاد، أي الانخراط في وعي المجتمع؛ وهو في الوقت نفسه وعي الكائن الفرد. ولا بد إذن من بحث مراحل النمو العقلي لدى الأطفال لأنها تتيح بالدرجة الأولى، إمكانية فهم تفاعل الأطفال مع الكتابة الموجهة إليهم، أخص بالذكر مسألة التلقي؛ والتلقي، كما هو معروف، حصيلة وعي وإدراك في صلب تقدير المتلقي، طفلاً كان أم راشداً، لما يتلقاه معرفياً وجمالياً. وغني عن القول إن الامتلاك المعرفي للواقع يستلزم الامتلاك الجمالي، والعكس صحيح. والتلقي، وفق هذه الدلالات، دربة ومران واكتساب، أي أن التلقي تربية عقلية كذلك.‏

1ـ2ـ إشكالية التاريخ والمجتمع:‏
وتلازم هذه الإشكالية إشكالية الوعي والإدراك، بل هي ناتج لها؛ وتعني سؤالاً محدداً واضحاً عصياً: إلى أي حدّ يدرك الطفل حركة التاريخ ومواضعات المجتمع؟ ما هو جلي أيضاً أن الطفل يدركهما على نحو خاص على أنهما وعيه بتاريخ مجرد أو مجتمع مطلق، لهما تطورهما وقانونهما وأخلاقهما ومقاربتهما القيمية، وهي ما تلبث أن تدخل في السائد. ويبدو الأمر لأول وهلة وكأنه تعارض بين تاريخ ومجتمع متخيلين، وتاريخ ومجتمع واقعين، غير أن الطفل مرهون بسمات وعيه وإدراكه للتاريخ والمجتمع، مما يؤدي إلى أنساق قيمية قد توافي المنظومة القيمية السائدة في سن أو أخرى، لأن الطفل فينا قد يستمر لأبعد من سن الطفولة بكثير، وربما هذا ما جعل إحدى المجلات الطفلية تضع شعاراً لها: «مجلة الأطفال من سن 8 إلى سن 88».‏
إن الأطفال يقرأون أي شيء، ويحتاجون لتلقي أدب الأطفال بنوعياته كلها وموضوعاته المتعددة في العلوم والفنون والآداب.‏
وتوجز عادة إشكالية التاريخ والمجتمع بأمرين؛ الأول هو الخيال، والثاني هو الموضوع(5)؛ وهما غالباً متعارضان، وعندما يتطابقان يؤدي ذلك إلى أدب أطفال جيد؛ فمما لا شك فيه أن الكتابة للأطفال شكل يسبح في مدى رحيب من الخيال، وفي سباحته ينشد امتلاكاً معرفياً وجمالياً للمعرفة البشرية، وهي نتاج تاريخ ومجتمع، ولكن الطفل يجردها من تاريخها ومجتمعها، ويضعها في موضوعات تنسرب مع المخيلة النشيطة للطفل؛ فتصبح الإشكالية في إدغام هذا المدى الرحيب من الخيال في سعة الموضوع. وكلما واءمت المعالجة الخيالية حركة التاريخ ومواصفات المجتمع كان الموضوع أقرب لوعي الأطفال ومداركهم.‏
لا يعين الطفل الموت أو الزواج أو الطلاق أو الهجرة أو الوطن أو الفقدان أو العقاب أو الأسرة في واقعها، بل تدخل في روعه علامات لتاريخ ومجتمع متخيلين ينفعان في الوعي نفسه. ولعل هذا ما يجعل الأطفال يتقبلون إعداد الكتابة الموجهة إليهم بيسر، ونقلها من بيئة إلى أخرى، ومن مجتمع إلى آخر دون عناء؛ فصار من السهل أن يكون ريمي بطل رواية هكتور مالو «ابن لا أسرة» طفلاً يتكلم العربية ويحمل اسماً عربياً، بل شخصية يابانية أو فرنسية تغدو مدافعة عن العقيدة الإسلامية بعد أن تحمل هذه الشخصيات أسماء عربية.. الخ.‏
2ـ إشكالية اللغة وتباين مستوياتها:‏
يتحدث العالم كله بلغته، وهي الرموز، واللغة، أي لغة، رموز؛ وقد تتعدد منظومات الرموز بتعدد اللغات وتزايدها. ويتعلم الطفل لغات منها، مع مراحل نموه. وغالباً ما يصطدم ليس بلغته القومية فحسب، بل ببعض لغات الكائنات المحيطة بنا.‏
ونقارب الإشكالية بتوضيح مستويات اللغة، فثمة مستوى معجمي هو المستوى الحقيقي للغة، وهو يختلف تماماً عن المستوى المجازي؛ وللمستوى المجازي أنواع من المجاز المرسل بوجوهه الكثيرة إلى التشبيه إلى الاستعارة إلى الكناية، إلى أنواع البديع والبيان فائقة العدد والاستعمال. ولربما كان مفيداً أن نشير إلى أن إشكالية اللغة تربوية أيضاً، وإلى أن حافظة اللغة عملية وعي وإدراك، ومنطلقها هو ارتباط لغة الطفل بمراحل النمو إياها، وتفيد هذه النظرية أن اللغة مكتسبة، وأن ثمة عوامل ذات شأن في عمل الطفل اللغوي وعامل المحيط بما فيه طبيعة النمو وعملية النطق(6). إن غالبية الأبحاث تستند إلى تثمير عمل الطفل اللغوي لدى النظريات الألسنية جميعها، وقبل هذا وذاك مواءمة النمو اللغوي في مراحله المتتالية مع النمو العقلي.‏
وليس جديداً أن نقرر ارتباط اللغة بالمراحل العمرية ارتباطاً وثيقاً، وكان وصف العلماء ما يسمى بلغة الأطفال، وهي استخدام كلماته للدلالة على كلمات معروفة، كأن تستخدم كلمة «نبو» للدلالة على الماء.‏
ومن الملحوظ أن تشجيع عمليات التعليم والتذوق من شأنهما تسريع النضوج اللغوي توكيداً على البعد التربوي للغة عند الأطفال، ويقال مثل هذا عن اللغة والجنس، فالتربية هي التي تعزز الفروق بين الجنسين، أو تمضي في تذويب هذه الفروق، وكذلك هو الحال مع اللغة والبيئة والعرق، فاللغة كائن اجتماعي، ولربما كانت الفئة أو الطبقة هي التي تنمي هذا الاستخدام اللغوي أو ذاك، وهذا ما جعل الكلام صعباً فيها، لأنها تختلف من مجتمع إلى آخر. ومرد الصعوبة إلى أن البحث فيها قليل، أو هو لا يذكر في مجتمعنا العربي(7).‏
تغلب على الطفل ما قبل المدرسة مرحلة التقليد اللغوي، بينما تبدأ مرحلة الاستقرار اللغوي في سن السادسة أو السابعة أو الثامنة حيث رسوخ العادات اللغوية، بما فيها تعلم اللغات الأجنبية، أو التعبير عن لغات أخرى، فتقوى عوامل التقليد فيما قبل المدرسة، مما يتيح للتربية فعلها في عوامل التقليد، وهي وضوح الإحساسات السمعية، والقدرة على حفظ هذه الإحساسات، وعلى تذكرها عند الحاجة إليها، وفهم معاني الكلمات، ونشاط الطفل الحيوي الذي يتمثل في عزمه وإرادته ورغبته في الاشتراك في جلبة الحياة.(8)‏
وفي هذا الإطار، ثمة تفريق في مراحل التقليد اللغوي باتجاه الاستقرار، من نمو اللغة، إلى تعلم اللغة واكتسابها (دور نمو القاموس اللغوي) إلى تذوقها (دور اللذة الصادرة عن المقدرة على التعبير واختبار الألفاظ المناسبة والإحساس بالجمال اللغوي، مثل محبة الشعر وإدراك جمال الصور ومقدرة التعبير عنها)(9).‏
ويفيد هذا التفريق في تقرير مكانة الاكتساب في التذوق اللغوي، لأن التذوق اللغوي ينشط بالاهتمام وتكوين الثروة اللغوية حيث يتأخر التمييز بين اللفظ والمعنى، وفيه أن الطفل يحفظ الكلمات دون فهم معناها الحقيقي، ثم يصبح بمقدوره التمييز بين اللغات مع ارتفاع الذائقة اللغوية سبيلاً لتربية التذوق، وللتدخل في هذا السبيل بوساطة مبادئ قابلة للنقاش، كأن نمد الطفل بروائع الكتب في كل وقت، وفي كل مكان، وأن نوفر للكتابة الموجهة للأطفال أكبر قسط من التلقائية والصدق والإخلاص الحقيقي النابع من القلب، وأن نضع بين يدي الطفل ما يختاره بنفسه، استناداً إلى بحوث تيسر للطفل حرية الاختيار(10).‏
وهكذا، ربط التذوق اللغوي بالقراءة وتنمية الاستعداد للقراءة ونجاح عملية القراءة، وتجنب محاذيرها، ونلاحظ أنها تتصل بالحفاظ على المستوى المعجمي للغة في مرحلة الرسوخ اللغوي، ومن هذه المحاذير، غرابة اللفظ، وطول الجملة، والتقديم والتأخير، والإسراف في استخدام المجاز والاستعارة(11).‏
وتعد تنمية القراءة لدى الأطفال السبيل الأمثل لتربية التذوق اللغوي، على أن القراءة ليست قراءة اللغة القومية أو لغة أجنبية، بل هي أوسع من ذلك بكثير، فثمة قراءة معرض، أو قراءة شريط سينمائي، أو قراءة لوحة، أو قراءة معزوفة، أو قراءة لغة علم ما، كلغة حيوان ما، أو لغة الحاسوب..الخ؛ على أن تنمية القراءة تبدأ من اللغة القومية المكتوبة، ثم تنمى المهارات الأخرى بعد ذلك. ولعل مهمات تنمية القراءة من أخطر مسؤوليات البناء الثقافي للأطفال، وينقل كتاب «تسريع القراءة وتنمية الاستيعاب»(12) آخر الخبرات العالمية والعربية في هذا الميدان، لأنه البحث الوحيد، وهو معد ومؤلف في آن واحد، باللغة العربية الذي يثير إشكالية اللغة في عصر المعلومات.‏
ولم يكن غريباً أن يضع أحد الباحثين مجلداً فاقت صفحاته الألف والمائة، سماه «فن التدريس للتربية اللغوية وانطباعاتها الملكية وأنماطها العملية»؛ ويكاد يكون هذا المجلد شاملاً لجوانب التربية اللغوية، في إطارها المعجمي، مما يغفل جوانب الإشكاليات اللغوية في المستويات الأخرى. أما الملاحظة الثانية فهي استغراقه في نصوص مدرسية، بينما كان الأثرى أن يعالج بحثه المستفيض الكبير والرائد من خلال نصوص أدبية معتبرة(13).‏

إن هذا يقودنا إلى الإجابة على إشكاليات اللغة انطلاقاً من مستواها الحقيقي أو المعجمي، والمجازي أو الاستعاري، وأذكر إلماحات عجلى عن المستويات الأخرى:‏
2ـ1ـ المستوى الاصطلاحي:‏
تطرح اللغة، في ظل التطور العلمي الهائل، لغة اصطلاحية خاصة بكل علم، ويتطلب تعامل الطفل معها وضع موسوعات ودوائر معارف للأطفال من جهة، واللجوء إلى تبسيط العلوم من جهة أخرى، مثلما يستدعي عملاً تربوياً بمشاركة الطفل نفسه على تنمية القراءة في مجالات المعارف، لأن لغتها اصطلاحية غالباً.‏

2ـ2ـ القاموس الخاص للطفل:
تنطوي المطالبة بوضع القاموس الخاص للطفل العربي على إيمان كبير بأهمية البعد التربوي للكتابة الموجهة للأطفال. ومن أسف، أن الدراسات المتعلقة بهذه المطالبة ما تزال غير ناجزة، مما يسبب خللاً في مخاطبة الطفل العربي، ويورث إشكالية تنعكس سلباً على الكتابة للطفل، وعلى تلقي الطفل لهذه الكتابة. وغني عن القول، إن هذه الحال تغري بالكتابة للطفل استسهالاً لا ينفع في إنتاج أدب أطفال جيد.‏

2ـ3ـ القاموس الخاص للكاتب:‏
غالباً ما يؤثر كتاب الأطفال، ممن يصدرون عن تجربة ونظرية في مخاطبة الأطفال، استعمال لغتهم الأدبية بمفرداتها وتراكيبها وظلالها الخاصة، طريقة في الصوغ، أو ترميزاً دالاً، أو إحالة لمعادل ما، ومن أمثلة هؤلاء الأدباء بالعربية سليمان العيسى الذي يرى في هذا الاستعمال وظيفة تعليمية للغة، هي من واجبات كتّاب الأطفال. ويغذي هذا الاتجاه تسلح هؤلاء الكتّاب بنظرية مفادها أن على الطفل أن يحفظ ما استطاع، أما المعنى فيحصل عليه الطفل في مراحل عمرية لاحقة. غير أن لمثل هذا الاستعمال محاذيره عندما يوغل القاموس الخاص للكاتب في فيض التأويل الذي يستعصي على مدارك الطفل ومخزونه اللغوي.‏

2ـ4ـ لغة الجنس الأدبي:‏
للجنس الأدبي، قصة أو قصيدة أو أغنية أو مسرحية أو مقالة.. الخ، لغته، بل إن للجنس الأدبي القصي أشكاله المتعددة القديمة كالحكاية والمقامة والمثل والطرفة والليلة والنادرة، والحديثة كالأقصوصة والرواية والقصة المتوسطة؛ ففي القصة نتحدث عن السرد وخصائصه وتراكيبه وبنائه ومنظوراته، على أن هذه اللغة الفنية الخاصة بهذا الجنس الأدبي أو ذاك تورث إشكاليات قائمة في تلقي الجنس الأدبي، ومن المفيد التعرف على لغة الجنس الأدبي للإحاطة بها، والمخاطبة الأمثل من خلالها.‏

2ـ5ـ لغة الوسيط:‏
من المعروف أن وسائط ثقافة الأطفال هي الوسائط التي ننقل من خلالها أدب الأطفال إلى جمهوره، ولكل وسيط لغته أيضاً، في الكتاب والصحيفة والمسرح والتلفزة والإذاعة..إلخ وتنجم إشكاليات متجددة باستعمال لغة الوسائط التي تشكل وسائل اتصال تقنية متطورة مثل التلفزة والإذاعة والسينما.‏
إن الوسائط تعتمد على أدب الأطفال، أي على الكتابة الموجهة للأطفال، وعلى المعنيين بإنتاج أدب الأطفال أو إعادة إنتاجه أن يطوروا لغة هذه الوسائط، توصيفاً واستهدافاً وتوظيفاً.‏

3ـ الإشكاليات الفنية البلاغية:‏
تأخذ الاستعارة في مجالات الكتابة للطفل حالات محددة تتصل بالبعد البلاغي المباشر وغير المباشر، لأن الاستعارة عدول عن ظاهر اللفظ واللغة إلى باطنه أو محتواه، وانتقال من المعنى المجرد إلى تعبير مجسد دون الالتزام بأدوات التشبيه أو المقارنة، وتكون الاستعارة عقلية أو لغوية، أي أن الاستعارة أبعد غوراً من مفهوم المحاكاة، إذ يضاف إليها اعتبارات مستوى التلقي ووضعية المتلقي، وهو الطفل في سن معينة. ونجاوز في بحثنا مفهوم البلاغة الصريح إلى التشابك العلائقي للنص الأدبي، ومدى دخول الأصناف البلاغية في التركيب النصي، لأن ثمة تحكميات تأخذ بالكتابة للأطفال من مجالات المحاكاة إلى اشتراطات الاستعارة، فتنتقل الكتابة للأطفال من الانفتاح على التاريخ ومقايسته، إلى اكتفاء الاستعارة بكونها فضاء بصيرة، أي علاقة إدراك لا زينة فحسب. ولا نعول هنا على المجاز اللغوي (أشكال المجاز والتشبيه) أو اللفظي (أشكال البديع)، بل ندخل في مجاز عقلي أو ذهني توفره الطبيعة التربوية للكتابة للأطفال على أن فضاء النص الأدبي كلّه تشابك علاقات مفترضة سرعان ما تنفرش أمام عين الطفل رحيبة مكتفية بحدودها التربوية.‏
ولعلي أوضح شيئاً من ذلك بشرح بعض الحالات الناجمة عن الإشكاليات الفنية البلاغية في إطارها العام، متجنباً الخوض في التفاصيل.‏

3ـ1ـ السرد في القصة:‏
يميز السرد النثر القصصي عن سواه، لأن السرد مصطلح حديث للقص، يشتمل على قص حدث أو أحداث أو خبر أو أخبار سواء أكان ذلك من صميم الحقيقة أو من ابتكار الخيال(14). إننا نسرد في كل نص قصصي حقيقي أو متخيل حكاية هي مجموعة أحداث أو وقائع أو أخبار.‏
وتدل تجربة الكتابة للأطفال على ضرورة مراعاة الاعتبارات التربوية لتستوي مع فضاء الاستعارة الشاملة للبناء القصصي. وأورد بعض هذه الاعتبارات:‏
أ ـ الطول:‏
لا يحدد النص القصصي بطول معين فهو بضعة أسطر حيناً مع الخبر، أو الطرفة، أو النادرة أو المثل، أو الأقصوصة، وهو مئات الصفحات حيناً آخر مع الرواية أو القصة الطويلة؛ وبينهما أشكال قصصية تطول أو تقصر. ولا ينبغي في الكتابة للأطفال أن يزيد طول النص القصصي عن عدد محدود من الصفحات مقترن بإقبال الطفل على القراءة أو التلقي؛ وبذا يختلف طول رواية الأطفال عن الرواية أو رواية الراشدين؛ لأن رواية الأطفال أميل إلى القصر.‏
ب ـ المنظور السردي أو وجهة النظر:‏
يفضل عدم إثقال المنظور السردي بالأفكار والنقاشات والجدال العقائدي والأخلاقي، مثلما يفضل عدم الخوض في التلاعب بوجهة النظر، باستخدام التقنيات الحديثة مثل التداعي أو تيار الوعي..الخ.‏
حـ ـ القصد:‏
ينبغي عدم مباشرة القصد في النص القصصي الموجه للأطفال، إيثاراً لمجانبة النصح والإرشاد والوعظ.‏
د ـ الحوافز:‏
الحافز هو الوحدة الحكائية الأصغر في كل نص قصصي، وتأنس تجربة الكتابة للأطفال إلى وضوح الحوافز ويسر تركيبها، وأن نبتعد، قدر الإمكان، عن التعقيد في ترتبها الواعي.‏
هـ ـ التحفيز:‏
اكتشف علماء السرديات أنواعاً للتحفيز، وهو نسق الربط بين الحوافز، ولعل ما يناسب الأطفال هو التحفيز الواقعي الذي يراعي التنامي الفعلي محاكاة للواقع في منظومته الاستعارية، حيث سيادة المنطق وتعليل ما يحدث، وتجنب التلاعب بالزمن أو المكان.‏
و ـ المتن الحكائي:‏
غالباً ما يعمد كتّاب الأطفال إلى الاستطراد، والاستسلام لفيض الوجدان، والولع بلغة الإنشاء؛ بينما أثبتت تجربة الكتابة للأطفال أن المتن الحكائي الصافي هو الأنسب، وقد تخلص النص القصصي من شوائب الوصف والقول المباشر.‏
غالباً ما ينفر الطفل من إثقال النص القصصي بالتفاصح اللغوي والاستعراض الفكري كما هو الحال مع مبالغة الوصف أو مبالغة التصريح بالأفكار مما يضر بالمتن الحكائي ويوهن نسيجه الفني.‏

3ـ2ـ الإيقاع في الشعر:‏
يتميز الشعر عن النثر بإيقاعه بالدرجة الأولى، ورأى النقاد القدامى أن خاصية الشعر تتبدى في الوزن والقافية لتمام الموسيقى، فقالوا عنه: كلام موزون مقفى، وعندما التفت كبار شعراء النهضة العربية أمثال شوقي والعقاد إلى كتابة الشعر للأطفال، اعتمدوا هذه الخاصية، حتى أن شوقي كتب شعره بغالبية الأوزان والبحور. ثم ما لبثت أن تطورت تجربة الشعر العربي بالنظر إلى الاعتبارات التربوية ذاتها، في ظل تطور علم نفس الطفل والتعرف إلى ديناميات فعاليته في التلقي، وأساسها اللعب والحركة، وما يضفيانه على شعر الأطفال من خصائص؛ فكان التركيز على ضرورة أن ينهض شعر الأطفال على الإيقاع، بما يعنيه من قابليات الترقيص (التعبير الحركي) والإنشاد والغناء (التعبير النغمي والموسيقي). وكانت محاولة أحمد نجيب المنهجية الرائدة لتعريف شعر الأطفال، ولاسيما موسيقاه في كتابه المعروف «فن الكتابة للأطفال» (1968) أما الاستنتاج الأهم في درسه فهو تذكيره على انبثاق الشعر من اللعب و الغناء، مما يستدعي الوقوف على البحور والأوزان التي تضمن تفاعل الطفل الحركي والغنائي مع الشعر، ولاحظ، فيما لاحظ، أن البحور والأوزان المناسبة هي القابلة للغناء والترقيص مثل الرجز والسريع ومجزوءاتها؛ غير أن البحث اللاحق في شعر الأطفال؛ وتطور الشعر العربي الحديث نفسه، وسعا إطار فهم الإيقاع بالتعامل مع التفعيلة أو التفعيلات كافة في بناء الكتابة الشعرية للأطفال.‏
لقد غدا اللعب والغناء منطلق شعراء الأطفال، وبهما يقاس الإيقاع؛ وقد رأى عبد التواب يوسف أن هذا المنطلق عالمي، وليس من طوابع شعر الأطفال العربي وحده. إن ضرورات شعر الأطفال عنده ثلاث، هي: التوضيح المادي والتلاعب بالألفاظ والتدقيق الذي لا غنى عنه أولاً، والتلاعب بالألفاظ وحسن اختيارها وترقيصها ثانياً، والتدقيق والصقل ثالثاً، مما يوجب توافر عناصر الحيوية الثلاثة أيضاً، وهي الإكورديونية بمعنى التناغم الإيقاعي والموسيقى في البناء الشعري، والإبداع بمعنى تجاور الكلمات وتفاعلها ليكون منها لوحة فنية بالألوان المتجاوبة، وكأنها مكون من مكونات هذا الإيقاع، والاتصال بمعنى توافر عنصر الحلم الشعري وتجنب المباشرة والصراخ. ويرهن يوسف ذلك بدراسة شاعر الأطفال لعلم العروض، للأوزان والقوافي، ولخصائص كلّ بحر من بحور الشعر وللأنماط الشعرية، وما يناسب كل موقف من أنغام(15).‏
وأيد ذلك محمد محمود رضوان، وهو رائد في دراسة أدب الأطفال، فوجد خصائص شعر الأطفال في إيقاعه بالدرجة الأولى أيضاً، لأن الإيقاع يمكن الشعر من إتمام دائرة استعارته عن طريق الصورة والنغم وتألفهما؛ وأبرز من هذه الخصائص الوزن والقافية وتكاملهما مع بقية عناصر الإيقاع الأخرى؛ وأهمها:‏
أ ـ الاعتماد على التكرار: فاكثر مؤلفو كتب الأطفال من التكرار بوصفه قيمة إيقاعية.‏
ب ـ حكاية الأصوات: فالطفل يحكي ويحاكي الأصوات التي يسمعها سواء أكانت أصوات حيوان أم طير أم أصوات آلات أم وسائل مواصلات؛ وغالباً ما يعمد مؤلفو شعر الأطفال إلى صوغ مقطوعات تتردد فيها أصوات يألفها الطفل، ويحب أن يترنم بها كصوت الديك أو الهرة أو القطار أو الريح ...الخ.‏
د ـ التعبير بالحركة: فيتضمن شعر الأطفال مقطوعات يتطلب ترديدها حركات يقوم بها الطفل، ويفضل أن تكون إيقاعية مع اللحن الموسيقي، ويطلق عليه أحياناً الغناء الحركي.‏
جـ ـ اتصال الشعر بالمواقف التعليمية والخبرات الحيوية للطفل: إذ يرافق النشاطات أداء الشعر وإنشاده؛ ويعرف مثل ذلك في منظمات الأطفال بالصيحات و الأناشيد التي يبتدعها الأطفال ومشرفوهم أثناء تنفيذ النشاطات، فيرددونها بمتعة وبهجة.‏
هـ ـ الوزن والإيقاع: ولا سيما اعتماد الأوزان الخفيفة والقصيرة القابلة للإنشاد والغناء(16).‏
وإذا كان باحثون آخرون عارضوا تخصيص شعر الطفل ببحور معينة، معتقدين أن البحور كلها تصلح لشعر الأطفال(17)، فإنهم دعوا إلى توسيع الكتابة الشعرية للأطفال بأشكالها: الغنائية والملحمية والمسرحية، استثماراً لطاقات شعر الأطفال المستندة إلى اللعب والحركة؛ فقد ولد الشّعْر من اللعب، ولا سيما شكلها الأهزوجي، كما يبين عبد الرزاق جعفر(18) مؤكداً أن الشكل الأهزوجي، في الإلقاء الفردي والإنشاد الجماعي، من شأنه أن يساعد الطفل على اكتشاف الوزن من خلال التصفيق والإيماء وغيرهما حيث تفاعل الطفل مع الشعر بالإنشاد والغناء أو اللعب والحركة والترقيص. إن مثل هذا التدريب على البحث عن الأوزان الإيقاعية من شأنه أن يعزز علاقة الطفل بالشعر معرفة وجمالاً وحيوية.‏

3ـ3ـ الاستباق في الخيال العلمي:‏
ثمة نتيجة توصل إليها المشتغلون بأدب الخيال العلمي هي أن الخيال العلمي لا يمكن فهمه إلا في بعده الزمني(19)؛ ولعل نظرة على نشأة الخيال العلمي في القرن الثامن عشر تظهر أن جوهر أدب الخيال العلمي هو استطاعته التخييلية في مجاوزة الزمن، من موضوعات العوالم الغريبة، إلى الرحلة، إلى الكائنات غير الأرضية، ونسمي هذه الاستطاعة استباقاً في الزمن، من استحضار الماضي السحيق، إلى مناداة المستقبل البعيد، وهي ما يطلق عليه غزو الزمن؛ وهذا الانزياح في الزمن يقوم على تقدير الماضي، بالاستناد إلى إنجاز العلم، وعلى توقع المستقبل إيماناً أو تفاؤلاً بإنجاز العلم. وأميز في موضوع الخيال العلمي بين تخييل العلم أو تخييل الغريب أو العجيب أو الخارق أو السحر أو الهوى (الفنطزة) مما يوجز أسطرة الحكمة القديمة أو جموح الخيال الشعبي؛ وللتوقع على سبيل المثال، اتجاهان، فالتوقع الحقيقي، بتعبير جان غايتينو، يعترف بوجود الزمن وقدرته، بينما الخيال العلمي «الأسطوري» يوقفه، أو يلغيه(20). وعندما نقارب الاستباق أو مجاوزة الزمن في الكتابة للأطفال نجد أن الخيال العلمي يشكل استعارة أخرى حين يوضع الاستباق في سياق زمني خاص مفترض أيضاً، شأن إدراك الطفل لمجرى التاريخ على أنه مجرى زمني نسبي مجرد أشبه بدائرة لعبة لتحولات الزمن. وقد يدمج الماضي بالحاضر، أو الحاضر بالمستقبل، في أمثولة يغدو فيها الاستباق صفة ملازمة لطبيعة الخيال العلمي.‏

4ـ الإشكاليات الفنية الإبلاغية:‏
تتحدد قيمة الكتابة للأطفال ببلاغتها وإبلاغيتها في آن واحد، فإذا كانت البلاغة علاقة داخلية، فإن الإبلاغية علاقة خارجية، وقد تزايدت مؤثرات العلاقة الخارجية على العلاقة الداخلية نفسها، وكنا لاحظنا ظواهر متعددة لهذه المؤثرات في إلماحنا إلى الإشكاليات الفنية البلاغية، ولعلنا نستكمل بحثنا بشرح بعض الحالات الناجمة عن الإبلاغية، وما تفرزه من إشكاليات فنية.‏
4ـ1ـ التقانات وثورة المعلومات والاتصالات:‏
شهدت نهايات القرن في العقدين الأخيرين تفجراً هائلاً في المعلومات، وسرعة فائقة فيها مقترنة بثورة مماثلة في الاتصالات، ربما بتأثير هذه المعلومات أيضاً. وقد أصبح الكتاب الإلكتروني، كما أشرنا، حقيقة واقعة. وكنت عالجت تأثيره على الثقافة وثقافة الأطفال من قبل(21). لقد كان رأيي أن الكتاب الإلكتروني أو تعميم استعمال الكمبيوتر ومن بعده «الانترنيت» وأثناء ذلك «المالتيميديا»، وهي الاستعمال المتعدد بتقانات متعددة للوسائط الاتصالية، دون ترشيد، سيؤثر سلبياً على تنمية ثقافة الأطفال، وسيشكل خطراً على نماء الطفل نفسه معرفياً وجمالياً، فقد كان الكتاب المطبوع، ومايزال، المصدر المعرفي الأول، وماتزال الفنون، ومنها وسائل الاتصال بالجماهير، مثل المسرح والسينما والتلفزة والإذاعة، تعتمد على الكلمة، وهي أداة الإبداع الأولى، ويعسر أخذها من غير الكتاب. ولاشك في أن الشكوى والتذمر من مثل هذه المخاطر قد تواترت كثيراً في الموقف التربوي والثقافي في الدول الصناعية المتقدمة تقنياً كاليابان وأمريكا على وجه الخصوص، فترددت صيحات التحذير من انتشار استعمال الكتاب الإلكتروني على عقول الأطفال والناشئة وتبلد مشاعرهم وعواطفهم، ناهيك عن سرقة وقتهم قبل سرقة مداركهم وسط الاسترخاء والكسل الذهني.‏
غير أن التحذير من هذه المخاطر لا يعني إغلاق الأبواب أمام هذه الأشكال المعرفية والترويحية الجديدة مما يتيحه التطور العلمي الهائل للكمبيوتر في مجال الاتصالات الذي تحول، كما يرى الكثيرون، من مجرد حاسب يقوم بالعمليات الحسابية المنطقية إلى أداة تضم إمكانات عرض النص والصوت والصورة والرسوم المتحركة والفيديو الرقمي، وهو ما اصطلح على تسميته بالوسائط المتعددة «المالتيميديا» التي تعني المزج، بتعبير آخر، بين سمات الكمبيوتر والتلفزيون في تناسق وتناغم على أقراص الليزر CD-ROM، وكان وراء هذا التطور العلمي ما يسمى بالثورة الرقمية. وقد واكب هذا التطور زيادة في سرعة أجهزة الكمبيوتر حتى تستطيع التعامل مع الكم الهائل من الأرقام الناتجة عن تحويل الصوت والصورة والفيديو إلى لغة الكمبيوتر، فازدادت سرعتها كما زادت ذاكرتها.‏
وهذا يعني أن الكتاب الإلكتروني يثير إشكاليات فنية قد لا يكون بالمقدور درء تبعاتها الثقيلة على مستقبل الإنسانية ما لم يرشد استعمالها، لأن الكتاب الإلكتروني في سبيله لاستبدال الذاكرة الإنسانية بذاكرة الأجهزة، ولابد من التبصير بمشكلات استعماله قبل انتشاره عندنا، وليس المقصود من ذلك كله أن نعادي ثمار ثورة الاتصالات، ولكن مثل هذا التبصير من شأنه أن يجعل الكتاب الإلكتروني نافعاً في خدمة الثقافة الرفيعة الحقة بعامة، والكتابة للأطفال بخاصة.‏

4ـ2ـ دور المربي:‏
يلعب المربي، داخل الأسرة أو الأسرة التربوية أو أجهزة الثقافة ووسائل الإعلام، دوراً كبيراً في إبلاغية الكتابة للأطفال، لأن الطفل يحتاج للمرشد أو المنشط الثقافي، فرداً من أسرته أو معلماً في الثقافة والإعلام والتربية، في مراحله العمرية حتى سن اليفاعة والرشد. ويتزايد الاهتمام بدور المربي في ظل التطور الثقافي والتعليمي والتربوي؛ وأذكر في هذا المجال حالتين، الأولى هي التحويل، والثانية هي الحكواتي.‏
والتحويل هي لجوء التربية إلى تمكين المربي من القدرة على تحويل أي كتابة أدبية قد لا تكون مناسبة للأطفال، إلى نصوص أدبية صالحة لهم، وهذا قائم في تأهيل المعلمين في سورية على سبيل المثال. ويتضمن ذلك اعترافاً بضرورة توافر كتابة للأطفال تفتقر إليها المكتبة العربية، واعترافاً، وهو أمر خطير، بأن الكتابة للأطفال تعليمية بالدرجة الأولى، ولذلك يستطيع أي معلم أن يقوم بها عن طريق التحويل، وكأنه يحضر وسيلة تعليمية أو وسيلة إيضاح. ولاشك، أن مبالغة الاعتماد على مثل هذا الدور تؤدي إلى إشكاليات قائمة، لأن المربي، ببساطة، ليس كاتباً، ولأن النصوص المحولة لن تحمل قدراً مقبولاً من «الأدبية»!.‏
وأما الحكواتي فهو أن يقوم المربي بدور الحكواتي الذي يقص الحكايات على الأطفال، وقد يبتدعها، أو يؤلفها، أو يضيف على متنها، أو يطور فيها. وقد غدا فن الحكاية للأطفال علماً يحدد اختيار الحكاية، وطرائق سردها، ومدى مشاركة الطفل فيها، وإدخال إشكال تعبيرية حركية أو بصرية أو سمعية عليها. ومن المفيد، التركيز على هذا الدور تيمناً بالتقاليد الأدبية القومية في مخاطبة الأطفال، ويحتاج هذا الدور إلى الترشيد كذلك تجنباً لإشكاليات فنية تؤثر على إبلاغية الكتابة للأطفال.‏

4ـ3ـ دور الطفل:
تعتمد الكتابة للأطفال اليوم على حيوية الطفل ومشاركته في إنتاجها أو إعادة إنتاجها، واختار بعض الحالات لدور الطفل كما في الدراما الخلاقة، وفي ظاهرة الطفل الشاعر أو الكاتب. ففي الدراما الخلاقة، يثمّر الأطفال مشاركتهم إلى تدريب صوتي وحركي من شأنه أن يرتفع بالتثقيف الذاتي إلى تنمية الإدراك وتعضيد الوعي، وتقدم الدراما الخلاقة طاقة إبلاغية ثرة للكتابة الطفلية.‏
أما ظاهرة الطفل الشاعر أو الكاتب فهي تجافي البعد التربوي للكتابة، ولا توافي الأدب في الوقت نفسه، وقد سماها عبدالرزاق جعفر «أسطورة» في كتابه «أسطورة الأطفال الشعراء»(22)، ورأى، واتفق معه في هذا الرأي، أن الطفل الخلاق غير موجود، لأن الخلق يتطلب صفات الرشاد؛ والأولى أن نعنى بتربية إبداع الأطفال ليكون منهم الشاعر والكاتب في مقبل العمر. ويتطلب هذا مواجهة الإشكاليات التي تنجم عن دور الطفل ضمانة لإبلاغية الكتابة للأطفال.‏

5ـ استخلاصات:‏
لاشك، إن مثل هذا المقاربة النظرية لمفهوم الكتابة للأطفال واليافعين تحتاج إلى توسيع وتعميق، وما قدمته أفكار قابلة للنقاش، وحبذا لو نظر إليها من خلال الاجتهاد السابق الذي أشرنا فيه إلى الكتابة للأطفال بوصفها استعارة.‏
والخلاصة الثانية هي أن الوعي بالكتابة للأطفال في إطار هذه المقاربة يتيح لنا تفعيل جهدنا القومي في تنمية ثقافة الأطفال، وكنت ذكرت إلماحات كثيرة باتجاه هذه التنمية في سياق البحث.‏

الهوامش والإحالات:‏
(1) ثمة كتب كثيرة عن نشوء أدب الأطفال والناشئة في المكتبة العربية، لعل أهمها كتاب دونيز اسكاربيك «أدب الطفولة والشباب» (ترجمة د. نجيب غزاوي، مراجعة عيسى عصفور ). سلسلة الدراسات النفسية 26، وزارة الثقافة، دمشق 1988.‏
(2) هذا البحث استكمال لما كتبته في كتابي «أدب الأطفال نظرياً وتطبيقياً»، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق،1983.‏
(3) عدة مؤلفين: «نحو خطة قومية لثقافة الطفل العربي»، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الاليكسو) تونس 1994 ص ص 178-197.‏
(4) نقرأ حديثاً متواتراً عن المراحل العمرية لدى غالبية المعنيين بأدب الأطفال وخبرائه، وأذكر منهم:‏
ـ نجيب، أحمد: «فن الكتابة للأطفال»، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1968.‏
ـ الحديدي، د. علي: «في أدب الأطفال»، الط2، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة 1976.‏
ـ الهيتي، د. هادي نعمان: «أدب الأطفال: فلسفته، وفنونه، وسائطه»، وزارة الإعلام، بغداد 1978.‏
ـ رمضان، د. كافية (ود. فيولا الببلاوي): «ثقافة الأطفال»، المجلد الأول، كلية التربية، جامعة الكويت، الكويت 1984.‏
(5) نجيب، أحمد: «المضمون في كتب الأطفال»، دار الفكر العربي، القاهرة، 1979 ص 29 وما بعدها.‏
(6) يعتمد جورج كلاس على مأثور القول في فهم لغة الطفل، ولعل الأقدم في التعبير عن هذه النظرة هما محمد قدري لطفي ومحمد محمود رضوان (وهما من مصر). انظر:‏
ـ كلاس، جورج: «الألسنية ولغة الطفل العربي»، مكتبة السابح، طرابلس 1984 ص 98 وما بعدها.‏
(7) خرما، د. نايف: «أضواء على الدراسات اللغوية المعاصرة»، سلسلة عالم المعرفة 9، وزارة الإعلام، الكويت 1978. ص 249.‏
(8) وافي، د.علي عبد الواحد: «نشأة اللغة عند الإنسان والطفل»، مكتبة غريب، القاهرة 1971 ص214.‏
(9) راشد، نتيلة: «دراسة حول نمو اللغة وتذوقها عند الأطفال» في كتاب:‎«لغة الكتابة للطفل»، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة 1981 ص5.‏
(10) المصدر نفسه ص6.‏
(11) رضوان، د. محمد محمود: «لغة الطفل المصري، دعوة للباحثين» في المصدر السابق نفسه ص ص 24 ـ 25.‏
(12) سالم، محمد عدنان (وأنس الرفاعي): «تسريع القراءة وتنمية الاستيعاب»، دار الفكر بدمشق، دار الفكر المعاصر ببيروت،1996.‏
(13) سمك، د. محمد صالح: «فن التدريس للتربية اللغوية»، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1979.‏
(14) أبو هيف، د. عبد الله: «القصة العربية الحديثة والغرب»، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1994. ص269.‏
(15) يوسف، عبد التواب: «شعر الأطفال عالمياً» في كتاب « الشعر للأطفال»، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1989 ص ص39-43.‏
(16) رضوان، د. محمد محمود: «اللغة في شعر الأطفال» في المصدر السابق نفسه ص ص 9ـ17.‏
(17) شعراوي، ابراهيم: «الطفل وموسيقى الشعر» في المصدر السابق نفسه ص 193.‏
(18) جعفر، د. عبد الرزاق: الطفل والشعر: «دراسة في أدب الأطفال»، دار الجيل، بيروت 1992 ص ص37-46.‏
(19) غايتينو، جان (ترجمة ميشيل خوري): «أدب الخيال العلمي»، دار طلاس، دمشق 1990، ص127.‏
(20) المصدر السابق نفسه ص132.‏
(21) أبو هيف، د.عبدالله: «الكتاب الإلكتروني». في جريدة «البيان» (دبي). العدد 6042، 2كانون الثاني 1997، ص31.‏
(22) جعفر، د. عبدالرزاق: «أسطورة الأطفال الشعراء»، دار الجيل، بيروت 1992.‏

المصدر
http://www.awu-dam.org/book/01/study...ok01-sd002.htm


د.محمود قطر Feb-04-2007 11:00 PM

تأملات في تجربة أدب الأطفال في الوطن العربي
 
الفصل الثاني : تأملات في تجربة أدب الأطفال في الوطن العربي
1ـ أهداف غائمة ومخاطر جدية:‏
1ـ1ـ تحدي التبعية:‏
لا نبالغ إذا قلنا: ما يزال أدب الأطفال في الوطن العربي على هامش الأدب والتربية معاً، لأن تجربة مائة عام ونيف من الاشتغال غير المنتظم على هذا الأدب شاحبة وضعيفة لأسباب كثيرة، تتعلق بظروف نشأة أدب الأطفال عند العرب وتطوره وتكونه، وبوضعية العلوم الإنسانية على وجه العموم وعلم نفس الطفل على وجه الخصوص من جهة ثانية، وبالموقف القومي والتربوي والثقافي العربي من جهة ثالثة.‏
ولا نبالغ إذا قلنا: إن الاهتمام بأدب الأطفال في الوطن العربي قد دخل الحياة الثقافية العربية من باب التبعية الثقافية والإعلامية، حين طُرح أدب الأطفال بقوة من مراكز التبعية الغربية، وحين لاحظت النخب الثقافية والسياسية والتربوية العربية أن الغرب والشرق يعنى بمخاطبة الأطفال والناشئة العرب، فينتج لهم أدب الأطفال، وينقله إليهم بوسائط ثقافية متعددة، وعبر وسائل الاتصال بجماهير الأطفال التي تنوعت وزاد تأثيرها بما لم تستطع وسائل القياس أن تحيط به في ظل تردي البحث العربي في أدب الأطفال أيضاً.‏
وهكذا، برز الاهتمام العربي بأدب الأطفال من خلال أمرين أولهما: توجيه أدب الأطفال ضمن أهداف محددة لم يتفق حتى الآن على توصيفها ومحتواها القيمي والفكري والفني، وثانيهما: مواجهة مخاطر هذه الكتابة للأطفال والناشئة على أن الغلبة والتأثير الأوسع مايزال لمراكز التبعية التي تنتج أدب الأطفال لجمهوره من الأطفال والناشئة العرب، بمواصفات أفضل وتنوع أوضح، وسعر أقل، يتيح لهذه المنتجات الرواج والانتشار أكثر من المواد الأدبية العربية القليلة، نوعا وكماً.‏
غير أننا سنشخص الصورة أكثر، فنعرض بإيجاز للخلفية التاريخية لنشأة أدب الأطفال في الوطن العربي تمهيداً للقول في العوامل الأخرى التي أدت إلى إهمال هذا الأدب حتى وقت قريب.‏
1ـ2ـ إشارة تاريخية:‏
لدى البحث في الخلفية التاريخية لأدب الأطفال في الوطن العربي نلاحظ أنه نشأ في أحضان التربية، ملبياً لحاجات التأليف المدرسي، وأن طوابع نشأته ظلت مستمرة حتى مطلع السبعينيات، وإذا عزلنا صور الكتابة عن الأطفال في التراث العربي القديم، فإن أدب الأطفال بحد ذاته خطاباً موجهاً للأطفال مراعياً اعتبارات هذه المخاطبة، هو ابن العصر الحديث، عصر حقوق الإنسان في الحرية والعلم والديمقراطية والإنتاج والصحة والعيش، أي أن أدب الأطفال هو نتاج محاولات قرنين من الزمن منذ أواخر القرن الثامن عشر، بمفهومه الناجز والمتفق عليه لدى غالبة المهتمين به، من الأدباء والفنانين والمربين، فهو ابن القرن الأخير منذ أواخر القرن التاسع عشر، حين اكتشف علم النفس، ثم بلغ ذروة إبداعه في مطلع القرن العشرين، ولاسيما ثلاثينياته، مع اكتشاف علم نفس الطفل، لأن أدب الأطفال مرهون بوجود الطفل نفسه، وبالذات مرهون بمعرفة الطفل نفسه، حيث ارتهن، فيما بعد، أدب الأطفال يتطور علم نفس الطفل وعلم اجتماع الطفل(1).‏
إن المعول في أدب الأطفال هو مراعاة اعتبارات مخاطبة الأطفال، أي أن معرفة طبيعة أدب الأطفال تخضع لمعرفة الطفل نفسياً واجتماعياً، ومن هنا بدأت تظهر ملامح خاصة لنظرية أدب الأطفال تميزها عن نظرية الأدب أو أدب الراشدين، وليست هذه الملامح الخاصة موغلة في التراث الأدبي الحديث، لأنها تجليات القوانين الخاصة بمخاطبة الأطفال في فنونهم كالشعر والقصة والمسرحية، وفي وسائطهم كالكتاب والإذاعتين المرئية والمسموعة والخيالة (السينما) والمسرح والصحافة وسوى ذلك.‏
لقد صار الحديث عن نظرية أدب الأطفال ممكناً في العقود الثلاثة الأخيرة وحدها، نحو ضبط السياق الأدبي على السياق التربوي، وغني عن القول بعد ذلك: أن أنساق تنضيد أدب الأطفال محكومة بتراتب المحتوى القيمي والتربوي داخل سياق النص الأدبي، وليس من الميسور أن نعاين عناصر أنساق تنضيد أدب الأطفال في مثل هذه العجالة، ولكننا نكتفي بالإشارة إليها، فثمة أسئلة لابد من الإجابة عنها في الكتابة للأطفال تنطلق من المعايير والاعتبارات التربوية كالنمو واللغة والخيال والتوجيه والتلقي (الجمهور) لتصب في المعايير والاعتبارات الفنية، وقد حسبت حساباً للتربية، كالتقنية والجنس الأدبي والوسيط الثقافي أو وسيلة الاتصال، فعلى سبيل المثال، تختلف قصة الأطفال عن قصة الراشدين، ونلمس مظاهر الاختلاف في المستوى الصرفي والإدراكي واللغوي والتخيلي والتوجيهي ومستوى قابليات التأثير، وهي مظاهر تنعكس بشكل أو بآخر على الشروط التقنية وخصائص الجنس الأدبي وطبيعة الوسيط الثقافي أو طبيعة الاتصال الإعلامي، فالقصة الطفلية متميزة بالمستويات التي أشرنا إليها، ثم هي نفسها تخلتف من شكلٍ إلى آخر في هذا الوسيط أو ذاك.‏
وتؤدي معاينة عناصر أنساق تنضيد أدب الأطفال إلى تحقيق المعادلة الصعبة التي لابد منها بين التربية والفن، فلا ينبغي أن يكون أدب الأطفال مجالاً للدعاوة والخطاب الرخيص ومباشرة التسلية، أو مجالاً للوعظ والتبشير ومباشرة القيم(2).‏
ومن الملاحظ، أن أدب الأطفال في الوطن العربي قد تكون بتأثير عوامل رئيسة نذكر منها:‏
أولاً: انتشار التعليم عن طريق المدارس.‏
وثانياً: المثاقفة عن طريق الترجمة والاقتباس والصحافة والاتصال بالغرب.‏
وثالثاً: بروز الطفل كائناً يليق بالمخاطبة عن طريق ظهور علم نفس الطفل بالدرجة الأولى.‏
وثمة أمر طريف، هو أن رواد أدب الأطفال العرب قد عادوا إلى تراثهم العربي القصصي والحكائي عن طريق المثاقفة إياها ترجمة واقتباساً عن محاولات غربية سابقاً، ولم يستعيدوا هذا التراث مباشرة من مصنفاته ومخطوطاته إلا متأخرين في العقود الثلاثة الأخيرة. لقد ظل أدب الأطفال العربي حتى منتصف القرن العشرين مزيجاً غير واضح المعالم من المؤثرات الأجنبية والمكونات التراثية، بل أن المؤثرات الأجنبية هي أكثر دوراناً على محاولات التعريب والترجمة والاقتباس والإعداد. أما التأليف فلم تظهر نماذجه الأصيلة إلا في الخمسينيات وما تلاها من عقود، (ولنذكر في هذا المجال إنجاز رائد كبير مثل كامل كيلاني الذي مازالت كتبه ومجموعاته للأطفال يعاد طبعها حتى يومنا هذا)(3).‏
وتشهد عقود الستينيات والسبعينيات على أن سمات أدب الأطفال في التراث العربي الحديث مازالت مستمرة كالمؤثرات الأجنبية ومثالها التعريب أو الاقتباس أو الإعداد أو النقل. ولا ننسى في هذا المجال مطبوعات «دار المعارف بمصر»، وهي مطبوعات رائجة ومنتشرة في أرجاء الوطن العربي، ونذكر من هذه السمات: غياب العناية باللغة إلا في محاولات نادرة فلا مراعاة للقاموس المشترك على سبيل المثال، وغلبة التعامل نفسه مع المضامين والمحتوى القيمي كهيمنة التعليم والوعظ، ومحدودية الأساليب التعبيرية نفسها كالأنسنة وتبسيط التاريخ إلى حد التسطيح، وإعادة التراث دون استعادته بل نقله عن مصادر أجنبية، ومعاملة الطفل راشداً وما تلحقه من أضرار في مخاطبة الأطفال والناشئة.‏
ويستفاد من هذه الإشارات حول الخلفية التاريخية أن العقبات والصعوبات التي رافقت نشأة أدب الأطفال العربي مستمرة، في ذلك المزيج من المؤثرات والمكونات، وماتزال جهود تأصيل أدب الأطفال العربي، من تقاليده، وباتجاه جماهير الأطفال والناشئة العرب، فقيرة.‏
1ـ3ـ الموقف من أدب الأطفال:‏
لقد اكتشف المعنيون العرب بأدب الأطفال متأخرين المخاطر الجدية لهذا الأدب في ظل غياب، لاشك فيه، للاهتمام العربي اللائق، وقد كانت المبادرة من مؤتمرات الأدباء والكتاب العرب التي دأبت على بحث أدب الأطفال منذ منتصف السبعينيات، كما لاحظنا في الفصل السابق، (المؤتمر العاشر بالجزائر1975م)، أما مؤتمرات وزراء الثقافة العرب فقد خصص مؤتمر القاهرة (حزيران 1991م) لموضوع ثقافة الطفل العربي، ولم يدرج أدب الأطفال بعد على مؤتمرات وزراء التربية العرب(4).‏
وكانت مبادرة الأدباء والكتاب العرب في الالتفات إلى أدب الأطفال في إطار وعي المثقفين العرب لمخاطر الغزو الثقافي والتبعية الثقافية التي وجدت في أدب الأطفال ميدانها الواسع، فعني الأدباء والكتاب العرب بأدب الأطفال العربي وتطويره والنهوض به مقاومة لعمليات احتلال عقل الطفل العربي.‏
غير أن الصراع قائم، ويتطلب جهداً عربياً شاملاً يستند إلى تكامل ثقافي صريح يتصدى لمحاولات التبعية الثقافية، ويواجه، فيما يواجهه، عوامل تأخر نهوض أدب الأطفال العربي، لأننا نلمس، حتى اليوم، مظاهر إهمال أدب الأطفال العربي وتهميشه، والتخلي عنه للمتاجرين به، وتتبدى هذه المظاهر في المواقف التالية:‏
أ- الموقف العربي، فيما يزال أدب الأطفال خارج استراتيجية العمل الثقافي العربي المشترك، مما يشير إلى ضعف إدراك أهمية أدب الأطفال في التكوين الإنساني، وفي مواجهة التحديات المصيرية في الوقت نفسه، وإلى إهمال التخطيط الثقافي القومي في مجالات أدب الأطفال المختلفة ووسائطه المتعددة.‏
ب - الموقف التربوي، فأدب الأطفال خارج استراتيجية التربية العربية سواء في المناهج أو في المناشط الكثيرة.‏
جـ - الموقف الثقافي، فثمة نظرة أدنى إلى أدب الأطفال قياساً إلى أنواع الإبداع الأخرى.‏
د- الموقف الفني، حيث تنتشر الأمية والأمية الثقافية، وحيث تخضع عمليات إنتاج أدب الأطفال وإعادة إنتاجه لاستسهال الرواج والمتاجرة مما يخفض القيمة الفنية، ويسطّح الممارسة الأدبية.‏
لقد قلنا الكثير عن الضرورة الوطنية والقومية لأدب الأطفال، فقد أغفلت أهمية أدب الأطفال في الوطن العربي طويلاً، ومازال الكثيرون من رجال العلم والأدب والفن والتربية بعيدين عن تقدير مكانه أدب التربوية والأخلاقية والقومية، ومازال الكثيرون منهم ممن يترفعون عن مخاطبة الناشئة في أدب يساعد على نماء جماهير الأطفال الواسعة، بما تمليه اعتبارات هذه المخاطبة التربوية والفنية، بل أن كثيرين يرون ضيراً في ممارسة هذا الخطاب.‏
وإذا كنا نلحظ اهتماماً بأدب الأطفال في بعض الأقطار العربية، ومنها سورية ومصر، وفي بعض أجناسه، في الكتابة له وعنه، فإن الحاجة لهذا الأدب ضرورة تستدعيها إرادة بناء الإنسان العربي بالدرجة الأولى، ناهيك عن الوظائف الكبرى التي يضطلع بها أدب الأطفال في عمليات التنمية الثقافية والاجتماعية والسياسية.‏
إن ثمة تحديات تواجه الثقافة العربية على وجه العموم، والتربية العربية منها على وجه الخصوص، إزاء تطوير أدب الأطفال، وانتشاره إلى ملايين الأطفال الذين هم أحوج ما يكونون إليه في ظروف التحول الاجتماعي الخطيرة التي تشهدها المنطقة العربية، ولعل من أولى الصعوبات ذلك التغير الهائل في وسائط الاتصال الحديثة، إذ تبدلت كثيراً وسائط الثقافة، وتنوعت تقنيات مخاطبة الأطفال وازدادت تشابكاً وتعقيداً، وتراجع أو كاد أن يمحو، الدور التقليدي للأسرة ولاسيما الجدة والأم والمدرسة والتجمعات واللقاءات الشعبية الشفهية والعفوية، وحلت محلها وسائل الاتصال الحديثة والتقنيات المتطورة الهائلة في نقل الأدب إلى الأطفال. وليست هذه الحساسية المتفاقمة مما يعاني منه رجل الثقافة والتربية العرب فحسب، بل هي وعي حاد بالمآل المسدود لمدرسة شاملة وتربية تكوينية متفتحة، تواجه العقبات في هذا المسار أو ذاك. فقد أجمع أدباء الأطفال في العالم على خطورة وضع الأطفال في عالمنا الراهن والمخاطر التي تقف في وجه أدب الأطفال الجيد، وأبدوا قلقهم المتزايد حيال المصائر التربوية والتنموية لأدب الأطفال، وتتوالى اعترافات هؤلاء الأدباء ورجل التربية في أكثر من مكان من المعمورة، داعية إلى الدفاع عن الأطفال ضد الأدب الرديء، وعلى وجه الخصوص ما ينشر منه عبر وسائل الاتصال الجماهيرية، وطالبوا برفع القيود عن حرية إبداعه وانتشاره: القيم الإنسانية أولاً، تربية الأطفال في الحياة اليومية ليكونوا قادرين على النمو السليم ومواجهة الأخطار في أوطانهم.‏
لقد صار مطلوباً السعي لأن تقوم، ولو بشكل محدود، وسائل الاتصال الحديثة ووسائط الثقافة وأجهزتها الكثيرة، مقام الجدات والأمهات في حكاياتهن وأغانيهن وغنى الأدب التربوي الشفاهي الذي يتلقاه الأطفال بلهفة وشوق، فتكبر معهم قوة الكلمات، وينعمون بثراء الوجدان وسمو النفس.‏
1ـ4ـ طوابع أدب الأطفال:‏
إن أدب الأطفال ضرورة وطنية وقومية وشرط لازم من شروط التنمية الثقافية المنشودة في عقدها الدولي الذي انقضى دون فائدة كبيرة، بل أن تنمية ثقافية تتجاهل أدب الأطفال أو تهمله، ناقصة، وتفتقر لجذورها، لأسباب تتعلق بطبيعة التكوين المعرفي والتربوي للإنسان. وغني عن القول، أن أدب الأطفال سبيل لا غنى عنه لتسريع عملية التنمية الثقافية والاجتماعية مما يتطلب بذل المزيد من الجهد لتأصيل أدب الأطفال وتدعيمه في التربية والمجتمع في مختلف المؤسسات، ولا تتوقف هذه الجهود عند نشر كتاب أو بث برنامج إذاعي، أو عقد أمسية أدبية، على أهمية مثل هذه النشاطات، بل تحتاج إلى تخطيط قومي شامل، في صلب التخطيط القومي للثقافة العربية، يراعي خصوصيات أدب الأطفال، وينهض بمسؤوليته على أنه ادخار مضمون في كسب معركة الحياة العربية.‏
ولهذا كله، نجد في أدب الأطفال سبيلاً أمثل لبناء الذات، مكوناً.رئيساً للشخصية القومية، وتتبدى قابليات أدب الأطفال لأداء فاعليته فيما يلي:‏
1ـ4ـ1ـ الطابع التربوي لأدب الأطفال، فلا ينكر أحد اليوم عظم الأدوار التربوية التي يؤديها أدب الأطفال، بل أن أدب الأطفال تربوي بالدرجة الأولى، بمعنى أن الاعتبارات التربوية هي الأساس المكين لإنتاج أدب الأطفال أو إعادة إنتاجه في الوسائط الثقافية الكثيرة والمتنوعة، ولاسيما اعتبارات النمو واللغة والخلد والبيئة والمجتمع.‏
1ـ4ـ2ـ الطابع القومي لأدب الأطفال، فأدب الأطفال هو أكثر المبدعات الفنية والأدبية تعبيراً عن الذات القومية واستمرار التقاليد الثقافية، والحفاظ على الأصالة بما هي الهوية. ولا يخفى أن سيرورة الثقافة العربية رسخت عبر تاريخها الطويل مصادر صرفية وإبداعية ثرة لتجربة أدب الأطفال في الشعر التعليمي وقصص الحيوان والقصص اللغوي وأساليب النثر القصصي الأخرى كالأخبار والنوادر والطرائف والسير الشعبية. وهذا كله، يثري إبداع أدب الأطفال العربي وينميه.‏
1ـ4ـ3ـ الطابع الشعبي لأدب الأطفال، لأن أدب الأطفال هو أكثر المبدعات الفنية والأدبية استلهاماً للتراث الشعبي والمأثورات الشعبية، فهو داعم للبحث في الهوية القومية، ومسعف الذاكرة بخصائصها الباقية، ومجدد وسائل التعبير في مخاطبة الأطفال بما هو أقرب إلى وجدانهم، وألصق بالأنظمة الصرفية والتربوية في مناخهم ومحيطهم.‏
1ـ4ـ4ـ الطابع الإيديولوجي لأدب الأطفال، فقد دخل أدب الأطفال ميادين الصراع الفكري منذ وقت ليس بقصير، ويعد أدب الأطفال اليوم أخطر مجال للتبعية الثقافية والإعلامية، إذ يستخدمه الاستعمار لغزوه الثقافي والإعلامي، ويتلقى الطفل العربي المنتوجات الأدبية والفنية الغزيرة، وفي شتى الفنون والوسائط بقصد التأثر على تكوين الناشئة، والترويج للنمط الثقافي التابع(5).‏
1ـ5ـ تطوير أدب الأطفال:‏
إننا نرى في أدب الأطفال جنساً أدبياً وإبداعاً وخطاباً ثقافياً متعاظم الفاعلية في الطفل العربي، ضمانة المستقبل العربي. وإننا إذ نخص أدب الأطفال بهذه العناية، فإننا ننهض بمسؤولياتنا، ونراها مهمات متنامية في الدفاع عن ثقافة الطفل العربي، وفي تأصيل أدب الأطفال، ومعنى انتشاره وإعادة إنتاجه وعياً يقوم بالدرجة الأولى على فهمه تاريخياً وثقافياً وسياسياً وتربوياً وأدبياً، ورؤيته الواقعية في خضم مشكلات النهوض الثقافي والتربوي العربي. وهذا يستدعي الوعي بأدب الأطفال إزاء المخاطر الجدية التي تتهدده، ويرتهن ذلك برعاية أدب الأطفال وتقديم العون اللازم له في الاتجاهات التالية:‏
أولاً: إدماج أدب الأطفال في العمل الثقافي العربي، وفي الخطة القومية الشاملة، تخطيطاً ينتظم في تدابير قابلة للتطبيق.‏
ثانياً: إدماج أدب الأطفال في استراتيجية التربية العربية من خلال تجذير الأبعاد التربوية لأدب الأطفال في التنشئة القومية، ومن خلال التكامل التربوي في إطار الوحدة والتنوع.‏
ثالثاً: تطوير الكتابة للأطفال في أجناسه، وعبر وسائطه.‏
ولعل التخطيط الثقافي والثقافي القومي الشامل هو المدخل للعون اللازم للنهوض بأدب الأطفال العربي ، في بحوث أدب الأطفال، وتعليمه والتأليف له وإنتاجه وإعادة إنتاجه في الكتاب والصحافة والخيالة والإذاعتين المرئية والمسموعة والمسرح وسوى ذلك من وسائط، ويتطلب ذلك قيام هيئة عربية ترعاها وتوجهها وتمولها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ولها مركز أو أكثر حسب الاختصاص (مركز بحوث أدب الأطفال، معهد إعداد للعاملين في أدب الأطفال، كلية جامعية لتدريس أدب الأطفال، مركز التراث الشعبي للأطفال، مركز برامج الأطفال الإذاعية، مؤسسة خيالة الأطفال، مركز كتاب الطفل، دار قومية لصحافة الأطفال... الخ).‏
2ـ أدب الأطفال.. موضة أم حاجة؟‏
2ـ1ـ «سدرة» وذكرى «العربي الصغير»:‏
حسناً فعلت حكومة الكويت بعزمها على إصدار مجلة جديدة للطفل العربي سمتها «سدرة» تيمناً بتلك الشجرة الكريمة، وبكل نبت كريم على الأرض العربية. وحسناً، فعلت حكومة الكويت بانتهاجها مخاطبة الطفل الربي من منظور عربي واضح، فقد قالت الدكتورة كافية رمضان رئيسة التحرير، في اجتماعها مع كتاب وفناني الطفل في سورية في إطار التحضير لإصدارها «إنها مجلة عربية التوجه، وهي للكويت بقدر ما هي للعرب جميعاً».‏
وقد كان ذلك اللقاء بهيجاً مثلما أثار فينا الشجن جميعاً نحن المعنيين بثقافة الطفل العربي، فثمة كثرة كثيرة من المجلات التي تتوجه إلى الطفل العربي، ولكن أقلها هو الذي يعنى بالتخطيط الثقافي العربي القيمي الذي لابد منه لتثمير إرادة بناء وجدان الطفل العربي.‏
كانت الخطوة الأولى لمجلة «سدرة» سليمة، فقد صدر العدد التجريبي «صفر» ليكون الأرضية لحوار خصيب يقوم التجربة، ويرسم آفاقاً لأوسع تعاون يستجيب لذلك النداء الحي العميق: إصدار مجلة للطفل العربي.‏
عندما دخلت إلى قاعة الاجتماع، كانت مجلة «العربي الصغير» التي أصدرتها حكومة الكويت وترأس تحريرها الدكتور محمد الرميحي آنذاك حاضرة في ذاكرتنا نموذجاً قارب النجاح، وحقق إنجازات واضحة في الاستجابة لهذا التطلع المقيم: مجلة للطفل العربي.‏
ولعل أهم ما حققته «العربي الصغير» في فترتها القصيرة، بالإضافة إلى اجتذابها لأهم أدباء الطفل في الوطن العربي، وربما السبب وغيره:‏
1ـ التوازن القيمي في المحتوى (القومي، الديني، الإنساني، الصرفي...الخ) من خلال تخطيط مسبق لا يخفى.‏
2ـ مراعاة الاعتبارات التربوية في مخاطبة الأطفال، إذ خصت المجلة عمراً معيناً، نجحت في تقديم المادة الثقافية المناسبة له، ثم خصت عمراً أصغر بنصف ملزمة داخل كل عدد.‏
3ـ الابتعاد عن الدعاوة والتبشير المباشر.‏
4ـ الاهتمام بأدب الأطفال العربي من جهة، والعالمي من جهة أخرى (روايات، سلسلة أو ملخصة قصص، قصائد، روائع أدب الأطفال العالمي من مسرحيات وروايات وسواها).‏
5ـ الاهتمام بتقديم التراث العربي للأطفال (أمهات الكتب) تعريفاً وتلخيصاً وتبسيطاً.. الخ.‏
ولدى اطلاعنا على العدد التجريبي صفر من مجلة «سدرة» أملنا على هيئة تحريرها ووزارة الإعلام التي تصدرها أن تكمل مسيرة «العربي الصغير»، وأن تعزز اتجاهاتها وأساليب خطابيها للطفل العربي، وتضيف إليها الاهتمام بتربية الابتكار والعمل والمهارات والخبرات العملية والعلمية واليدوية، وربطه بمبدأ التربية الحياتية، وتنمية اتجاهات التواصل بجماعات الأطفال من النوادي داخل المجلة مثل نادي المراسلين ونادي أصدقاء الطبيعة والبيئة، ونادي أصدقاء اللغة العربية، ونادي الأدباء الصغار، ونادي هواة الجغرافية..الخ، وأن تتناوب هذه الأبواب ـ النوادي الظهور لتكوين حركة أطفال ناشطة في وعيها وتكوينها.‏
لقد كانت «العربي الصغير»، وماتزال بتقديري، أهم قنوات الاتصال بجماهير الأطفال العرب، ومن المأمول أن تتابع «سدرة» مسيرتها الرائدة إسهاماً في الإجابة عن أسئلة ثقافة الطفل العربي، وهي أسئلة مؤرقة ضاغطة على الوجدان القومي والوطني النبيل، من أجل ثقافة عربية لطفلنا العربي في خضم المشكلات التي يعاني منها العمل العربي المشترك، وتعاني منها ثقافتنا العربية، وأولها ذلك الإهمال المتعمد لهذا الأدب الماتع المفيد الذي لابد منه لكل تنشئة منشودة.‏
وغني عن القول، إن بداءة الاهتمام العربي الجدي بأدب الأطفال كانت مع العام الدولي للطفل عام 1979م، حين هبت موجة قوية في بحر الثقافة العربية العاصف اسمها «أدب الأطفال»، غير أن واقع الحال ما لبث أن آنس انشغاله بقضاياه المعتادة مع منتصف الثمانينيات، ومن أسف، ان «أدب الأطفال» لم يكن بين هذه القضايا. وخلال هذه الفترة، أعني مطلع الثمانينيات، شهدنا صدور مجلات كثيرة موجهة للطفل العربي، كتب ومطبوعات وسلاسل متعددة، لا تختلف كثيراً عن ذلك الفيض التجاري الهائل، المترجم أو المعد للطفل العربي في دوائر غير عربية، والمنتشر في الأسواق العربية منذ أواخر الستينيات، وكان دخل أدب الأطفال بقوة ميدان الصراع الإيديولوجي وصراع الأفكار منذ ذلك الحين.‏
مثلما شهدنا برامج إذاعية وأشرطة سينمائية ومتلفزة، فغصت البيوت بصور وأصوات أبطال وأشخاص الرسوم المتحركة الذين يتكلمون العربية في بيئات غير عربية، ولا ينتجون سوى قيم المغامرة الخارقة والمجتمع الاستهلاكي والانفصام عن الواقع، وتكريس الاتجاهات غير الإنسانية أو العلمية، ولنتذكر مثالاً واحداً في هذا المجال هو «غراندايزر»، فثمة عشرات الأطفال في سورية الذين رموا أنفسهم من سطح أو نافذة وتكسرت أعضاؤهم، وهم ينفعلون مع بطلهم الأسطوري، ويقلدون حركاته العجيبة.‏
أما في الجانب الآخر الرسمي، جانب الثقافة العربية الرفيعة، فقد رصدت في الفصل السابق «أدب الأطفال في مؤتمرات الأدباء العرب»، وكانت النتائج مخيبة للآمال، وإن كانت دافعة للأمل في بعث الاهتمام بأدب الأطفال:‏
1ـ أن ثمة تداخلات بين مفهوم الأدب للأطفال، والأدب عن الأطفال، وقد كان المؤتمر الثاني عشر انعطافة هامة في معالجة موضوع أدب الأطفال والإجابة على بعض أسئلته القومية والتربوية والتثقيفية.‏
2ـ ماتزال رؤية الكاتب العربي لأدب الأطفال في إطاره العام، ولم تقترب ـ كما ينبغي ـ من خصائص أدب الأطفال وتحديد نظريته في الإبداع أو الإنتاج أو إعادة الإنتاج في وسائطه إلى الأطفال.‏
3ـ عكست بحوث المؤتمرات ومناقشاتها وتوصياتها جدة أدب الأطفال في الحياة الثقافية العربية وأبرزت حاجة هذا الأدب القصوى إلى العون والتخطيط والعمل القومي المشترك باعتباره في صلب العملية التربوية وبناء الإنسان العربي.‏
والنتيجة هي أن أدب الأطفال لم يترسخ بعد في تقاليد العمل الثقافي أو التربوي القومي والوطني. وأما الصعوبات التي يواجهها فهي أكثر من أن تعد، سواء في وعي نظريته أو تيسير انتشاره بين أوسع جماهير الأطفال. إن ثمة خطوات قد تحققت في هذا القطر العربي أو ذاك غير أنني سأتحدث عن المعضلة الأساسية التي تواجه تطور أدب الأطفال في الوطن العربي، وما يتصل بها من قضية التبعية من جهة، وتثمير الهوية القومية إزاء ذلك من جهة أخرى.‏
2ـ2ـ تبعات ثقيلة على أدب الأطفال:‏
أذكر أنني كنت في موسكو عام1979 ضمن حشد كبير من أدباء الأطفال من قارات الأرض كلها. كان ذلك في عز الاتحاد السوفييتي وفي زهو ارتفاع الصوت بقوة الإيديولوجية وتشكيلها للنشاطات الإنسانية كلها حتى الشخصية منها، فكيف بالمجالات المعرفية ومنها هذا الأدب الجديد ـ النامي: أدب الأطفال؟ كانت بداءة اهتمام سوفييتي بتوجيه مبدعات هذا الأدب، ولكن الثمانينيات لم تسعف بذلك فتغير العالم، وتلاشت معه تلك المحاولة لقوننة أدب الأطفال.‏
كان ذلك في حينه يستجيب لأصوات عالمية تجسدت في اعتبار عام 1979م عاماً دولياً للطفل. ومن المؤسف أن هذه الأصوات العالمية، وجلها من ذوي الإرادة الطيبة، قد شحبت وغابت في غابة الصراع الدولي على المصالح والسياسات والمنازعات الدولية الصغيرة والكبيرة، فعاد الاهتمام إلى حجمه من خلال أصوات المسؤولية الأخلاقية والاجتماعية في عصرنا الداعية إلى رعاية الطفولة من أجل مستقبل الإنسان. ثم ماذا تفعل هذه الأصوات وحدها. كان عدد الأدباء والمشاركين في المؤتمر أكثر من مائة وثلاثين كاتباً من تسع وثلاثين بلداً، واجتمعوا في المؤتمر العالمي الثاني لأدب الأطفال الذي انعقد تحت شعار: «شباب العالم وأدب الأطفال» فيما بين 15 و24 تشرين الأول 1979م.‏
وكانت المناسبة شروعاً في فورة أدب الأطفال التي تأججت مع العام الدولي للطفل، وكانت الحكومات والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية تتسابق للحديث عن أدب الأطفال وقد داهمت هذه الفورة الدول العربية أيضاً التي حاولت أن تنغمر بالحديث على ضعف تجربتها وقلة حيلتها، إذ مايزال أدب الأطفال حتى اليوم خارج استراتيجية التربية العربية، ولا يلقى العون اللازم في خطط وزارات التربية والشؤون الثقافية العربية، ناهيك عن ظهوره الشاحب في الخطة الثقافية القومية الشاملة. وقد ألقيت آنذاك كلمة نددت فيها بالتبعات الثقيلة التي نحملها لأدب الأطفال العربي، فيصير في ظل هذه التبعات إلى أدب تعليمي مباشر، مثلما دعوت إلى تخليص أدب الأطفال من وطأة الإيديولوجيات ونزوعاتها البشرية الدعاوية الضارة. لأن أدب الأطفال ينهض على المنظومة القيمية الإنسانية والقومية والأخلاقية والمعرفية.‏
وبعد قرابة عقدين ونيف من الزمن على هذا المؤتمر مايزال أدب الأطفال والناشئة يعاني من التبعات إياها: ألا يكون أدب رديئاً، وأن يواجه الأدب الرديء، فقد تحولت مداولات المؤتمر إلى دفاع عن الأطفال ضد الأدب الرديء، وبخاصة ما ينشر عنه عبر وسائل الاتصال بالجماهير، أو القيود التي تعوق أدب الأطفال عن حرية إبداعه، وعن حرية إنتاج أو إعادة إنتاج أدب أطفال جيد.‏
أذكر أن ذلك المؤتمر الطيب الذكر كان في منتهى الأهمية، فقد تحدث فيه كل كاتب، في كلمة قصيرة أو طويلة عن شجون أدب الأطفال في بلادهم وفي العالم. وعلى الرغم من صدور نداء من المشتركين في المؤتمر إلى المعنيين بتربية الأطفال والناشئة وتثقيفهم في العالم، فإن كل كلمة ألقيت فيه تعد نداء عامراً بمسؤولية الكاتب عن قضية الأطفال والناشئة، فكان المؤتمر، بتقديري، فضاء مشتركاً لصوت الحرية القوي إزاء المخاطر التي تتهدد أوضاع أدب الأطفال والناشئة.‏
كان هناك تركيز واضح على مسألة أولى، هي القيم الإنسانية، فليس هناك قيم محايدة، والمهم هو تربية الأطفال في الحياة اليومية المعاصرة ليكونوا قادرين على النمو السليم ومواجهة الأخطار.‏
لقد نجح المؤتمر إلى حد ما، بعيداً عن الشعارات وأوهام الإيديولوجيا، في أن يكون نداء متقداً للضمير البشري للعمل من أجل السلام والحرية والديمقراطية، ومن أجل التقدم الاجتماعي وتعاظم المسؤولية الأخلاقية إزاء الناشئة لدى كل رجل وامرأة شريفين.‏
وقد أكدت، مثل كثيرين، على أوضاع الأطفال التي تؤثر، بالأساس، على إنتاج أدب أطفال جيد، لأن التقدم، كما هو الحال، في أدب الأطفال يعني انشغال هذا الأدب بشروط إنتاجه، وهذا المناخ مايزال مرهوناً بالظرف التاريخي الذي تعيشه بلادنا. وعلى الرغم من ظروف معيشة الأطفال السيئة في عشرات البلدان، فإن القائمين على شؤون التربية والتعليم والثقافة والإعلام يصرفون، غالباً، جهودهم عن حماية الطفل من الأدب الضار والسيء. قال الأديب الهندي الكبير راميش كوشيك:‏
«يتحمل الكتاب مسؤولية ثقيلة، فالكاتب هو من يجب عليه جعل الناس يعتقدون بأن بني البشر كافة هم من الأصل نفسه، وأنه لم يكن هناك تمييز بين غني وفقير، أو في المعتقد والدين عندما ظهر‏
الإنسان على وجه الأرض للمرة الأولى. وإنها لحقيقة جلية أنه من الأسهل أن تشذب غرسة عن أن تشذب شجرة، فالأطفال يتشربون القيم الإنسانية على نحو أسهل من البالغين».‏
وفي الاتجاه نفسه، تحدث ملياً الكاتب الياباني المعروف شيكو واتانابي عن الأخطار التي تهدد الطفل وأدبه: «إن الأطفال الذين فقدوا عادة الخلق غير قادرين على إدراك معنى الحياة الإنسانية في الوقت الراهن. لأن التلفاز في اليابان محل الأم والأب والجدة بالنسبة للطفل. لقد تربينا على حكايا الجنيات التي كانت تقصها علينا أمهاتنا وجداتنا، وقد رسمت فينا قوة الكلمة صوراً سحرية. حتى الآن، وقد أصبحنا بالغين راشدين، ومايزال التصور الخلاق معنا، ويساعدنا هذا التصور، ليس على رؤية حروف تطبع في الكتب فحسب. إنه يوقظ أفكارنا ومشاعرنا، وبفضله نتمكن من سماع الأصوات الإنسانية الحية. وهكذا، يسرق التلفاز الطفل، ويحرمه من قدرته على الحلم. أنني أستطيع الاستشهاد بأمثلة لا تحصى عن الأخطار التي تهدد الطفل عندما يكف عن سماع الكلمة وإدراكها بشكل حسي».‏
إن المسؤولية الراهنة أمامنا جميعاً هي تخليص أدب الأطفال من تبعاته الثقيلة: وأولها إبعاده عن مباشرة الإيديولوجيا، وثانيها الحد من عدوان وسائل الاتصال على أدب الأطفال.‏
2ـ3ـ احتلال عقل الطفل العربي:‏
لا نبالغ إذا قلنا أن اهتمام الدوائر غير العربية بمخاطبة الأطفال والفتيان العرب أكثر وأوسع وأعمق تأثيراً بما لا يقاس من الدوائر العربية، وكذلك ثقافة وإعلام ومؤسسات رسمية وتنظيمات شعبية وأهلية، ويبدو اهتمام هذه الدوائر غير العربية وكان تثقيف الأطفال والفتيان العرب وتكوينهم الإنساني والمعرفي يعنيها أكثر من أهلهم، فقد وجدت نتيجة مروّعة لدى دراستي للقصص والروايات والحكايات المقدمة للأطفال والفتيان العرب أن سبة المؤلف بأقلام عربية من مجموع النتاج القصصي والروائي لا يساوي 12%، وأن نسبة المعد والمقتبس تتجاوز الـ55%، والبقية هي قصص وروايات وحكايات مترجمة، ووجدت نتيجة مروّعة أخرى هي أن جهد هذه الدوائر العربية في تقديم هذا النتاج لا يصل إلى نسبة 16% (كماً ونوعاً، أي كمية المطبوع وتعدد عناوينه وتنوعها)، بينما تضطلع دوائر غير عربية بتقديم نسبة تفوق الـ84% (متعاونة مع تجار عرب وكتاب ومترجمين وفنيين عرب أو مؤسسات عربية تجارية أو هي تصدرها إلى الأسواق العربية عن طريق موزعين عرب)، فالاتحاد السوفييتي حتى سقوطه عام 1991 يحتل نسبة 37% من مجموع هذا النتاج، وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا والصين إبان تلك الفترة الطويلة التي رافقها تبشير عقائدي لا يخفى 13% وهذا كله جهد أقل بكثير من جهود بعض الدول الأخرى في تعاونها مع دور نشر عربية كفرنسا (في بيروت)، والولايات المتحدة (في القاهرة وبيروت) والمملكة المتحدة (في بيروت)، وهكذا فإن حرص هذه الدول على مخاطبة الأطفال والفتيان العرب غير مفهوم لأول وهلة بعيداً عن غابات الاستعلاء الثقافي والتبعية الثقافية والغزو الثقافي، بينما لا تقدم لهم الدوائر العربية إلا القليل مما يحتاج إليه بناء وجدانهم وتعزيز انتمائهم الوطني والقومي وتعضيد منظومة القيم الشعبية والإنسانية لديهم.‏
ثم زاد على هذه الدول جهد دول أخرى مثل الباكستان (مطبوعات تاج كمبني ليمتد كراتشي باللغة العربية للأطفال والفتيان العرب) وإيران هونغ كونغ واليونان، وكلها تجهد لطباعة الكتب التي تخاطب الأطفال والفتيان العرب، من منظورات تربوية وفكرية قد لا نرضى عنها، أو لا تتوافق مع مسعى الاستراتيجية التربوية والقومية العربية.‏
ويبدو من جهة أخرى مشروع سلسلة «ليد بيرد» مثالاً لدعم الغرب الاستعماري الذي يريد الهيمنة على عقل الأطفال والفتيان العرب، فقد انطلقت السلسلة مع مطلع السبعينيات، وطبعت أكثر من ألفي عنوان لمختلف أعمار الأطفال والفتيان في عشرات السلاسل القصصية والشعرية والحكائية والروائية والعلمية والمعرفية والتعليمية، وأغرقت السوق العربية بمئات ألوف النسخ المطبوعة بأناقة فاخرة والمدعومة من ناشرين هما ليديبيرد بوك ليمتد (لافبور) ولونغمان (مارلو)، وأقول مدعومة لأنها تباع بأقل من تكلفتها بكثير. ومن اللافت للنظر أن هذه المنشورات كسبت تعاون عدد كبير من الأدباء والكتاب العرب الذين وظفت إبداعاتهم ضمن سياساتها الثقافية مما يندرج تحت لواء الالتزام التقني أي الأديب أو الكاتب الذي يبيع إبداعه وجهده فتروجه الدار الناشرة وفق مقاييسها ومعاييرها، وغالباً ما تتحكم بطرائق توجيه هذا النتاج أو إعادة إنتاجه سلفاً مع الأدباء والكتاب أنفسهم ما داموا سيبيعون هذا الجهد تغذية لحاجات المركز الداعم لحاجات الطلب والسوق، وتأتي القيم والاعتبارات في النهاية.‏
هل علينا أن نؤكد من جديد أن الأمن القومي مرتبط بالأمن الثقافي، وأن مشكلات الأطفال والفتيان من مشكلات مجتمعهم وأمتهم، وهل علينا أن نؤكد أن مخاطر التبعية الثقافية في ميدان أدب الأطفال والفتيان هي الأشد والأبلغ تأثيراً في احتلال عقل الناشئة العرب، ونحن في هذا لا ندعو إلى إغلاق باب التبادل الثقافي، ولا ندعو إلى الانغلاق على ثقافتنا دون تراث الإنسانية المشرق والمضيء والنافع والأصيل، ولكننا نعاود التوكيد على مجاوزة المعاناة الشديدة التي يعانيها أدب الأطفال والفتيان العرب أمام خطر احتلال عقل الناشئة العرب من ثقافة تندرج في التبعية، ولا تخدم إلا الذين يتاجرون بكل شيء بعد ذلك ولو كانت ثقافة الطفل العربي.‏
لاشك أن الثوابت في مخاطبة الأطفال والفتيان العرب مهددة منذ مطلع الستينيات ولا أدرى إذا كان ذلك يجري في غفلة منا أم في غفلة من الزمن.‏
2ـ4ـ سؤال الهوية القومية:‏
عندما قرر الوزراء المسؤولون عن الشؤون الثقافية في جامعة الدول العربية أن يخصصوا مؤتمرهم بالقاهرة (حزيران 1991م ) لأدب الطفل العربي، فإنهم أكدوا بما لا يدع مجالاً للشك يقظة متأخرة في وعي مكانة أدب الأطفال في البناء الثقافي والوجداني للإنسان من خلال الناشئة وعمليات التنشئة، فلم يسبق لمؤتمرات الوزراء المسؤولين عن الشؤون الثقافية أو اجتماعاتهم أن عالجت، على نحو أساسي قضية أدب الأطفال، ومن الواضح أن هذا المؤتمر لم يعن بهذه القضية في منظوراتها كلها، القومية والتربوية والعقائدية والفنية والتقنية، فقد أتيح لي أن أطلع على وثائق ذلك المؤتمر، وكنت آمل أن يعمق المؤتمر البحث في رؤية واقعية لآفاق تطوير ثقافة الأطفال في الوطن العربي، ولاسيما علاقتها بالهوية القومية، ومواجهة الغزو الثقافي والهيمنة الغربية، بأنماطها الاستهلاكية والإنهاكية للقيم الثقافية العربية كما تتبدى في إغراق السوق العربية، ثقافياً وإعلامياً وتربوياً بمنتجات ثقافة الأطفال المصنعة في دوائر غربية وأجنبية.‏
ثم أعيدت في قطرين عربيين آخرين، أسئلة الهوية القومية في أدب الأطفال، فقد كرس المهرجان الثامن لثقافة الأطفال بالشارقة مجاله الفكري (15-29/2/1992م) لموضوع شديد الصلة بالهوية هو «الطفل والتراث والوطن» توكيداً على منطلقات واضحة في الدور التربوي لثقافة الأطفال من جهة، وفي قابلية هذا الدور التثقيفية في بناء الشخصية العربية من جهة أخرى، وقد برزت هذه المنطلقات في الاعتبارات التالية في بيان ندوة المهرجان التخصصية:‏
1ـ الاستناد إلى التراث العربي الثري كمصدر رئيس لثقافة الطفل باعتباره ينبوع الثقافة الحية ومعيناً لوعي الذات والهوية القومية ليكون أساساً للتنشئة الاجتماعية الهادفة نحو التفتح والانطلاق والإبداع.‏
2ـ مواجهة موجة التغريب الثقافي التي تهدد الأصالة الثقافية لدى الناشئة بتوفير بدائل عملية من خلال برامج متقدمة تقنياً شكلاً ومضموناً.‏
3ـ التوكيد على التراث العربي بمصادره الدينية والتاريخية والأدبية والشعبية والأسطورية، وكشفت الأوراق المقدمة للندوة عن مصادر مهملة في التراث العربي كالألعاب والأسفار والوصايا والرسائل والأخبار والفنون المختلفة، مما يشكل ذخيرة حية لاستعادة التراث العربي في ثقافة الأطفال.‏
4- إقامة مؤسسة عربية لإنتاج وسائل ثقافة الطفل العربي بكافة أشكالها يكون هدفها توحيد الجهود في هذا المجال وتشجيع المبادرات المتميزة في أكثر من بلد عربي.‏
لقد كانت هذه التوجهات والتطلعات مثار حلقة بحث متخصصة أيضاً قبل قرابة ثلاثة عقود من الزمن حول «أدب الأطفال والتراث»، أقامتها منظمة الطلائع بحماة (كانون الأول 1983م)، ومن المفرح أن هذه المبادرة في معالجة هذه القضية الثقافية الهامة قد صارت إلى حالة قومية عامة في مؤتمر الوزراء المسؤولين عن الشؤون الثقافية في الوطن العربي، وفي الندوة التخصصية حول «الطفل والتراث والوطن»، ثم أتيح لي أن أشارك في البيان الختامي للندوة الثقافية المتخصصة لمهرجان الجنادرية السابع للتراث والثقافة (الرياض 14-29/1992م)، وكان موضوع المهرجان لعام 1993 هو أدب الأطفال في إطار الندوة الرئيسية «الموروث الشعبي في العلم العربي وعلاقته بالإبداع الفكري والفني».‏
وشملت الندوة تنظيم عدة فعاليات ثقافية قومية مثل مسابقة ثقافية للأطفال في الأقطار العربية، وإقامة معرض عربي لكتاب الطفل تُدعى إليه دور النشر والمؤسسات العلمية المتخصصة، وإخراج عدد من الكتب والدراسات في شكل نصوص إبداعية للطفل، ودراسات موضوعية عن الأطفال وأدبهم، كما تشمل أعداد «بيبلوغرافيا» شاملة لكل ما كتب عن الطفل وللطفل من الأعمال الأدبية في الوطن العربي، لتكون في متناول الباحثين والقائمين على أمر ثقافة الطفل.‏
إن الاهتمام بالتراث وتأصيله واستلهامه في أدب الطفل العربي، لا يعني الوعي العميق والإدراك القومي والنظرة الثاقبة لمكانة أدب الأطفال في التنشئة السليمة فحسب، بل يفيد بالدرجة الأولى الإجابة عن أسئلة الهوية القومية في أكثر المكونات الصرفية تأثيراً على وجدان الناشئة، ولاشك، أن المكونات الصرفية لا تنقل أو تجتلب، بل ينبغي لها أن تمثل في التقليد الأدبي القومي الذي يضمن السيرورة والفاعلية بغنى موروثاته التي تستجيب لعمليات التلقي المجدي والمشاركة الإيجابية، وهما ضرورة لكل ثقافة حية.‏
الهوامش والإحالات:‏
(1) أنظر على سبيل المثال:‏
* مطبوعات منظمة طلائع البعث (دمشق) حول أدب الاطفال، وهي مؤلفات تضم أبحاثاً لعدة مؤلفين، نذكر منها:‏
- «مكتبة الأطفال وقراءاتهم» (1980م).‏
- «صحافة الأطفال» (1980م).‏
- «مسرح وسينما الأطفال» (1980م).‏
- «أدب الأطفال في وسائل الاتصال بجماهير الأطفال» (1982م).‏
- «أدب الأطفال والتراث» (1984م).‏
- «جمهور الأطفال والثقافة» (1985م).‏
- «الثقافة العلمية للأطفال» (1989م).‏
* منشورات مركز تنمية الكتاب العربي في الهيئة المصرية العامة للكتاب (القاهرة) وهي مؤلفات تضم أبحاثاً لعدة مؤلفين أيضاً، نذكر منها:‏
- «كتاب الطفل» (1979م).‏
- «لغة الكتابة للطفل» (1981م).‏
- «مكتبة الأطفال» (1981م).‏
- «كتب الأطفال ومجلاتهم في الدول المتقدمة» (1985م).‏
- جعفر، د.عبد الرزاق: «أدب الأطفال»، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1979م.‏
- الحديدي، د.علي: «في أدب الأطفال»، منشورات مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ط2، 1976م.‏
- اسكاربيك، دونيز: «أدب الأطفال والشباب»، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1988م.‏
(2) أنظر على سبيل المثال أيضاً:‏
- أبوهيف، عبدالله: «أدب الأطفال نظرياً وتطبيقياً»، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1983م.‏
- نجيب، أحمد: «في الكتابة للأطفال»، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة 1968م.‏
- الهيتي، د.نعمان: «أدب الأطفال: فلسفته، فنونه، وسائطه»، منشورات الإعلام، بغداد 1977م.‏
- الفيصل، سمر روحي: «مشكلات قصص الأطفال في سورية»، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1981م.‏
(3) هناك آراء مختلفة حول هذه القضية في كتابي:‏
- سعيد، د. نفوسة زكريا: «خرافات لافونتين في الأدب العربي»، مؤسسة الثقافة الجامعية، الاسكندرية، 1976م.‏
ـ الفيصل، سمر روحي: «ثقافة الطفل العربي»، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1988م.‏
(4) أدب الأطفال نظرياً وتطبيقياً، مصدر سابق.‏
(5) انظر العدد الخاص والممتاز بأدب الأطفال في سورية: «الموقف الأدبي»، دمشق، العدد 208، 209، 210، تشرين الأول 1988م، السنة18.‏

المصدر
http://www.awu-dam.org/book/01/study...ok01-sd003.htm


د.محمود قطر Feb-04-2007 11:03 PM

أدب الأطفال في مؤتمرات الأدباء العرب
 
1 مرفق
لأسباب تقنية ، بات من الصعب إدارج باقي نصوص هذا الكتاب الهام في أدب الأطفال ، ولحين التغلب على تلك الأسباب ، مرفق للمهتمين الروابط الخاصة بباقي فصوله لمن يرغب في استكمال الاستفادة منه

الفصل الثالث : أدب الأطفال في مؤتمرات الأدباء العرب

الفصل الرابع : استحداث التراث في أدب الأطفال



الفصل السادس : مستقبل الكتابة للطفل العربي

الباب الثاني : في ثقافة الأطفال ـ الفصل الأول : الأهمية الراهنة لثقافة الأطفال

الفصل الثاني : إسهام المبدع العربي في تربيَة الذوق الفني لدى الناشئة

الفصل الثالث : منظور اجتماعي لثقافة الطفل العربي

الفصل الرابع : الثقافة العلمية للطفل العربي: مفهومها، جذورها، آفاقها

الفصل الخامس : التكامل بين الثقافة والإعلام والتعليم

الفصل السادس : الغزو الثقافي ومخاطره على الهوية القومية في ثقافة الأطفال

الفصل السابع : الهوية القومية في أدب الطفل العربي

الخاتمة

المصادر والمراجع

ومرفق النص الكامل للكتاب .. مضغوطاً .. وفقكم الله

تحياتي ومحبتي للجميع






الساعة الآن 05:00 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لـ : منتديات اليسير للمكتبات وتقنية المعلومات
المشاركات والردود تُعبر فقط عن رأي كتّابها
توثيق المعلومة ونسبتها إلى مصدرها أمر ضروري لحفظ حقوق الآخرين