عرض مشاركة واحدة
قديم Feb-11-2007, 12:32 PM   المشاركة5
المعلومات

د.محمود قطر
مستشار المنتدى للمكتبات والمعلومات
أستاذ مساعد بجامعة الطائف
 
الصورة الرمزية د.محمود قطر

د.محمود قطر غير متواجد حالياً
البيانات
 
العضوية: 13450
تاريخ التسجيل: Oct 2005
الدولة: مصـــر
المشاركات: 4,379
بمعدل : 0.65 يومياً


افتراضي مشكلات القراءة والترجمة واللغة

الفصل الرابع:مشكلات القراءة والترجمة واللغة
يحتاج أدب الأطفال إلى علاج لمشكلات القراءة والترجمة واللغة، لأن هذه المشكلات تفعل فعلها في الطفل العربي، فتقلِّل من فرص إتقانه مهارة القراءة، أو تجعله، في حال صلاحية الكتاب وتوافره بين يديه، يقرأ نصوصاً تغرس فيه قيماً مغايرة لقيم الأمة العربية الإسلامية، إضافة إلى تأثُّر لغته الفصيحة بالإعلام، وسيادة العامية في الخطاب الموجَّه إليه. وعلى الرغم من أن القراءة تبدو أوّل وهلة بعيدة عن الإعلام واللغة والترجمة والاختراق الثقافي، فإن إنعام النظر يقود إلى أن الخلل فيها مرتبط بالقيم التي يبثها الأدب المترجم، وبالمستوى اللغوي الذي يصل إليه الطفل العربي نتيجة اتصاله بالإعلام. ولسوف أسعى، هنا، إلى توضيح حدود المشكلات الثلاث وآثاره في الطفل العربي، وأساليب العلاج الملائمة لها.‏

أولاً: مشكلة القراءة:‏
لا يشك أحد في أن للطفل حاجات قرائية لابدَّ من تلبيتها لتكتمل شخصيّته ويتمكّن من التكيُّف مع مجتمعه والإسهام في بنائه. وتتنوّع هذه الحاجات وتختلف تبعاً لتنوُّع المجتمعات واختلافها. ويمكن الاطمئنان إلى أن مشكلات القراءة لدى الأطفال العرب تنبع من المجتمع ولا علاقة للأطفال بها، لأن طفلنا العربي كأيّ طفل في العالم قارئ جادّ فضوليّ يحب الموضوعات كلها ويرغب في الاطلاع عليها، إلا أن واقعنا لا يوفِّر الفرص الكافية للأطفال ليكتسبوا عادة المطالعة ويتّصلوا بالكتاب. ومن ثَمَّ برز لدينا ما تصحّ تسميته بمشكلة القراءة.‏
ولابدَّ، قبل الحديث عن هذه المشكلات، من الإشارة إلى أنني أتحدَّث عن الطفل السوي وليس المعوق الذي يعاني من مشكلات التخلُّف في القراءة نتيجة أسباب جسدية(1) كضعف البصر، أو نفسية كتشتُّت الانتباه، أو عقلية كالقصور في الفهم والإدراك(2). ذلك لأن مشكلات القراءة لدى المعوقين ذاتية لها علاجها الطبيّ والنفسيّ، أما الأطفال الأسوياء فهم الذين لا يعانون من أية مشكلة تعوقهم عن القراءة ولكنهم لا يقرؤون، أو يقرؤون قليلاً، لأسباب ترجع إلى الكتاب والمكتبة والتربية والمدارس الخلفية.‏

1- المشكلات النابعة من التربية:‏
القراءة مهارة لغوية تُعْنى بتحليل الرموز المكتوبة وإعادة تركيبها. ولا يستطيع القارئ فهم معنى الكلمة إذا لم يتمكّن من تحليل رموزها وإعادة تركيبها. ولهذا السبب عُدَّت القراءة عملية نفسية لغوية معقَّدة، تبعاً لارتباطها بعدد من المهارات العقلية كالإدراك والتذكُّر والفهم والاستنتاج. ولا أشك في أن التعليم في المدارس العربية غفل عن هذا الأمر يوماً، بل إنني أدّعي أن المعلمين العرب فهموا القراءة على أنها عملية تعليم الحروف متَّصلة ومنفصلة ونطها نطقاً سليماً، وتزويد الطفل بزاد من الألفاظ يلبّي حاجة النموّ اللغوي لديه. وهذا المستوى، مستوى معرفة آلية القراءة، لا يعاني من قصور نوعي، ولكن مشكلة القراءة لدى الأطفال العرب تبدأ منه. ذلك أننا لا نُعلِّم القراءة لذاته، بل نعلِّمها لتكون وسيلة الطفل لفهم الحياة والتكيُّف مع تطوّرها. أيْ أننا نريد لقراءة الطفل أن تُحقِّق وظائفها المعرفية والنفسية والاجتماعية، فتصله بأفكار الآخرين وتساعده على التكيُّف النفسي معهم، وتُنمّي ميوله واهتماماته. ولا يتحقّق هذا كله إذا لم يكن رصيد الطفل اللغوي كافياً لدفعه إلى القراءة. والقضية هنا جدلية، فزيادة الثروة اللغوية تساعد على فهم النصوص المقروءة، وممارسة القراءة تزيد الثروة اللغوية.‏
ويُخيل إليَّ أن التربية العربية لم تدرك ذلك جيداً، لأنها ربطت القراءة بمادة اللغة العربية وبالنصوص التي تُقدَّم في كتب هذه المادة عموماً، وفي كتب القراءة خصوصاً. أما الموادّ الأخرى فمعلِّموها يعتقدون بأن القراءة ليست من اختصاصهم، وبأنهم لا يخسرون شيئاً إذا لم يدقّقوا فيها. وههنا تتعقَّد المشكلة، فالنصوص التي تُقدِّمها مادة اللغة العربية لا تُقدِّم ذخيرة لغوية تكفي الطفل لمتابعة الموادّ الأخرى، ونصوص الموادّ الأخرى ليست مبنيّة استناداً إلى الذخيرة اللغوية التي ملكها الطفل من مادة اللغة العربية، مما يجعله يتأخَّر في تحصيله المدرسي أو يتلكأ فيه.‏
ثم إن معلِّمي مادة اللغة العربية يعتقدون بأن إتقان آلية القراءة يعني إتقان القراءة، ومن ثَمَّ لا يلتفتون إلى مهارات قرائية أخرى أساسية، هي الاستعراض والمرور السريع والتَّصفُّح(3)، فينشأ الطفل العربي وهو يفتقر إلى المهارات التي تعينه على التغطية السريعة المنظَّمة للنصوص، وعلى المرور السريع الذي يُقدَّم له بعض التفصيلات عنها، وعلى تصفُّحها ليحدِّد حاجته منها. وهذه المهارات ضرورية لتحصيله المدرسي ولرفد هذا التحصيل بمعلومات مستمدّة من الكتب غير المدرسية.‏
ومن ثَمَّ يغادر طفلنا مرحلة الطفولة من غير أي تدريب تمهيدي يُؤهِّله في مراحل حياته اللاحقة للاتصال بالكتب والمكتبة والإفادة منهما.‏
وما هو أكثر خطراً أن تُهمل التربية مهارتي الفهم والحكم(4). فالفهم لا يعني معرفة المعاني والأفكار فحسب، بل يعني قبل ذلك وبعده قدرة الطفل على ترجمة الرموز المكتوبة إلى مشاعر وآراء وعواطف تغني أحاسيسه وتسهم في تنمية شخصيّته. ومن الواجب ألا ندع الطفل يكتفي بفهم ما يقرؤه، بل علينا تدريبه على أن يُكوِّن رأياً في المادة المقروءة، فيحكم عليها ويميّز جيّدها من رديئها لئلا يبقى عبداً لما يقرؤه. ومما يساعد على ضعف مهارتي الفهم والحكم لدى الطفل العربي إهمال تدريبه على القراءة الصامتة، والتركيز على القراءة الجهرية السليمة في الدروس المخصّصة للقراءة.‏
ذلك أن فهم المقروء يرتفع إذا مارس الطفل القراءة الصامتة، ويتدنّى إذا مارس القراءة الجهرية، تبعاً لاختلاف الحواس المشاركة في القراءتين. ولا شك في أن القراءة الجهرية مفيدة وأساسية، ولكن ذلك لا يعني الاهتمام بها وحدها، لأن القراءات التي تهدف إلى المتعة والتحصيل والبحث وحلّ المشكلات تنتمي كلها إلى القراءة الصامتة وتتمّ بوساطتها. وهذا يعني أن إهمال تدريب الطفل على القراءة الصامتة هو إهمال لوسيلة قرائية أساسية في حياته المدرسية والعامة.‏
أخلص من هذا الموجز إلى أن التربية في المدرسة الابتدائية العربية بذلت الوقت والجهد في تعليم الطفل العربي آلية القراءة، ودفعته بعد ذلك إلى ممارستها، وزوّدته بوساطتها ببعض الألفاظ الجديدة. ونتج عن ذلك إهمال القراءة الصامتة، وتقييد الطفل بنصوص كتب القراءة، وعزل الموادّ بعضها عن بعض، وضعف التدريب على المهارات الأساسية للقراءة، مما جعل القاعدة التي تستند إليها عادة المطالعة لدى الطفل العربي هشَّة غير راسخة في نفسه. أو فلنقل إن القراءة في المدرسة الابتدائية العربية تتمّ تأدية لأغراض التحصيل المدرسي في مادة اللغة العربية وحدها، والواجب أن ينعكس الأمر فتصبح مادة اللغة العربية بتدريب الطفل على مهارات القراءة ليستعملها في تحصيل الموادّ الأخرى ولتتمكّن من نفسه فتصبح عادة لا يستطيع الفكاك منها.‏

2-المشكلات النابعة من المدارس الخلفية:‏
التربية ليست مسؤولة وحدها عن مشكلات القراءة لدى الأطفال العرب. ذلك أن المدارس الخلفية، وخصوصاً الأسرة ووسائل الإعلام، تسهم في المشكلات نفسها. فالمطالعة ليست عادة من عادات الأسرة العربية، والطفل الذي ينشأ في أسرة لا تقرأ لا نتوقع له أن يكون قارئاً، لأن القراءة مهارة مكتسبة وليست فطرية. فإذا رأى الطفل أبويه وإخوته يقرؤون نشأ على مصاحبة الكتاب ومحبّته ومطالعته. وينصح التربويون الأبوين دائماً بترسيخ عادة القراءة لدى أطفالهما بتحويل المكافآت المادية إلى كتب، ومناقشة الطفل فيما يقرؤه، وتسجيل اشتراك له في مجلة تصله باسمه على عنوانه مما يشعل اهتمامه ويدفعه إلى الارتباط بالكتاب واحترامه والمحافظة عليه. ويعاني الأبوان العربيان من وسائل الإعلام، ويدّعيان أن التلفاز لا يمكّنهما من ترسيخ عادة القراءة لدى أطفالهما. والحقّ أن التلفاز غزا البيت العربي، وشارك الأبوين في تربية الطفل، ولكن التلفاز ليس ضاراً إذا لم يكن بديلاً من القراءة. ومسوّغ ذلك كامن في أن التلفاز يقدّم معارف وخبرات شتّى، ولكنه يتركه متلقياً سلبياً تبعاً لتقديمه كلّ شيء له. أما القراءة فتجعل الطفل متلقياً إيجابياً، لأنها تُعينه على إعمال ذهنه وخياله لينفذ وراء الرموز المكتوبة ويفسرّ إيحاءاتها تفسيراً ذاتياً.‏
كما أن القراءة تراعي حريّة الطفل في التدقيق في المقروء، فتتيح له العودة إلى صفحة كان قرأها ليدقّق فيها أو يسبر غورها من جديد، في حين يعجز عن ذلك أمام التلفاز، لأن الصور المتحركة تترى وليست هناك إمكانية لإعادتها إلى الوراء. كما أن هذه الصور تُقدِّم الهيئات والأبعاد كاملة فتقضي على مخيّلة الطفل أو تجعلها تضمر لأنها لا تعمل. وإذا كان ارتباط الأطفال العرب بالتلفاز شديداً فإن ذلك لا يبيح للأبوين والمربين التقليل من شأنه، بل يدعوهم إلى العمل على ترسيخ عادة المطالعة في الطفل لئلا ينفرد التلفاز بتربيته.‏
والقضية، هنا، ذات شأن. ذلك أن التلفاز ينقل إلى الطفل ما يجري في العالم القريب والبعيد، فيقدّم له عادات البشر وتقاليدهم وأفراحهم وأفكارهم وبيئاتهم وطبائعهم، فتتسع معارفه وخبراته، ولكنها تبقى معارف وخبرات مشتتة تحتاج إلى تنظيم، وليس هناك شيء مؤهَّل لتنظيمها غير القراءة. فالقراءة وحدها هي التي تُدرّبه على التفكير والشعور بالعالم والحكم على الجيّد والرديء، وتغرس فيه القيم الإيجابية، وتُنمّي قدرته على التخيُّل، فتغدو بنيته النفسية منظّمة وشخصيّته مستقلّة غير تابعة. إن التلفاز يوسّع دائرة اطّلاع الطفل، وهذه السعة هي الخطوة الأولى في تطوّر عالمه الروحي. أما عبء الخطوة الثانية فيقع علينا وعلى القراءة، وهو عبء لا يلغيه التلفاز لأنه يعني انصرافنا وانصراف القراء إلى الوقلئع التي اطلع عليها الطفل، ومساعدته على تعرُّف العالم المحيط به، وتعويده التفكير والشعور المستقلّ، وتطوير قدرته على التصوّر والتخيُّل، وبذلك وحده تصبح معارفه واسعة بالمعنى التربوي لا الحياتي وحده.‏

3-المشكلات النابعة من الكتاب والمكتبة:‏
تعني القراءة، من قبل ومن بعد، توافر الكتاب الصالح للطفل. ومشكلات كتاب الطفل العربي كثيرة جداً، أقربها إلينا قلّة عدد النسخ التي تُطْبَع من الكتاب الواحد، وصعوبة اختراق الكتاب الحدود بين الدول العربية، وغلبة الكتب المترجمة على المؤلّفة. ولكن هذه المشكلات تبدو هيّنة إذا قيست بالمشكلات غير المنظورة، وأبرزها عدم توافر المؤثرات الخارجية والداخلية في كتاب الطفل(5). فالخارجية تعني حجم الكتاب الملائم لكل مرحلة عمريّة، وبنط الحروف المطبوعة، وضبطها بالشكل أو إهمال الضبط، ونوع الورق، وقضية اللوحات، وما إلى ذلك كتدوين المرحلة العمريّة التي يصلح لها الكتاب على الغلاف الأخير. والواضح أننا حائرون في مواجهة هذه المؤثّرات الخارجية، ولا بدّ من التخلّص من هذه الحيرة باعتماد الحجم الكبير للأطفال بين السادسة والتاسعة، والحجم المتوسّط للأطفال بين العاشرة والثانية عشرة. واعتماد الضبط اللغوي الكامل في الكتب المقدّمة للفئة الأولى، والضبط المتدّرج في الكتب للفئة الثانية، لنتيح للطفل القراءة السليمة في الأولى، واستعمال معارفه النحويّة في الثانية. ولا بدّ من أن تكون اللوحات المرفقة بالكتاب فنّية تنمّي تذوّق الطفل الجمالي، وتعينه في الوقت نفسه على توضيح المعاني التي تطرحها الرموز اللغوية.‏
أما المؤثّرات الداخلية فهي المفهومات التي تساعد على تطوّر العالم الروحي للطفل، وتنمي قدرته على التفكير والشعور، وغير ذلك مما أشرتُ إليه في أثناء حديثي عن المدارس الخلفية. والواضح أن كتب الأطفال العربية عُنيتْ عناية كبيرة بمفهوم الأنسنة الذي يعني إضفاء صفة الحياة على الحيوان والجماد. وقد استند هذا المفهوم إلى ضعف ارتباط الطفل بالواقع. ولكن الكُتَّاب بالغوا في الاعتماد على هذا المفهوم في تطوير العالم الروحي للطفل، فانحرفوا أحياناً إلى الترميز، ولم يدركوا في أحايين كثيرة أن الأسنة تصلح للأطفال بين السادسة والتاسعة. أما الأطفال بين العاشرة والثانية عشرة فيبدؤون يرتبطون بالواقع ويفضّلونه على الأنسنة، ويطلبون أن تدور الكتب حوله، وتمتح منه. ولهذا السبب عُدَّ المفهوم الإنساني صالحاً لهم، وهو مفهوم يساعدهم على تصوير الأشكال التي تظهر فيها الحياة كالخير والشر والصدق والكذب، مما يربّي لديهم القدرة على التكُّيف والتمييز بين الحق والباطل، ويمدهم بغذاء روحي فكري يساعدهم على تنمية شخصيّاتهم.‏
ولا شك في أن العاملين في حقل أدب الأطفال يدركون أن ضعف الاهتمام بالمؤثرات الخارجية والداخلية ينبع أساساً من أن الكُتّاب لم يتعمّقوا البحث في علم نفس الطفل، ولم يعايشوا الأطفال العرب ليتعرّفوا حاجاتهم وميولهم واتجاهات الرأي عندهم. ولعلهم ظنوا أن مواهبهم الأدبية تكفيهم للكتابة للطفل، فاقتصروا عليها وخسروا أحياناً المؤثّرات التي تشدّ الطفل إلى الكتاب وتغريه بقراءته. ولا يداني هذا الظنّ غير اعتقاد المسؤولين عن مكتبات الأطفال بأن المكتبة مكان لتنظيم الكتب وجمعها فحسب. ولهذا السبب اكتفوا بشراء ما يستطيعون من كتب الأطفال، وحشروا ما اشتروا في خزائن للكتب وضعوها في قاعة خصصوها للأطفال. وفاتهم أن مهمّتهم الرئيسة هي تنظيم القراءة، ووضع الكتاب الملائم في اليد الملائمة، والعمل على ترسيخ العلاقة بين الطفل والكتاب، وإعداد المشرفين المؤهّلين لمساعدة الطفل على البحث عن الكتاب وتشجيعه على أساليب التعلُّم غير المباشر منه.‏
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أن مكتبة الطفل العربي تعاني من مشكلة خطيرة، هي غلبة الكتب الأدبية على الكتب ذات الصبغة العلمية. فالكثرة الكاثرة من كتب الأطفال قصص وحكايات ومسرحيّات. أما الكتب العلمية التي توضِّح للطفل ما وراء ظواهر الطبيعة فنادرة. كما أن الموسوعات العلمية أكثر ندرة لدينا. ويدخل حقل الندرة كلُّ كتاب يجعل الطفل العربي يعي حقوقه وموقعه في المجتمع، ويُفسِّر له ما يجري في عالم الكبار، ويضفي عليه شيئاً من البهجة والمرح تخفيفاً من الاتجاه الأحادي الخاص بمعالجة الموضوعات معالجة جادة، وكأننا ننظر إلى الطفل على أنه راشد مصغَّر أو نُعدّه لحياة الرجال بدلاً من بهجة طفولته. وذلك كله يشير إلى أن مكتبة الطفل العربي تفتقر إلى التنوّع الضروري لتلبية ميول الأطفال وحاجاتهم، ومراعاة الفروق الفردية بينهم، وخصوصاً التباين بين ذكورهم وإناثهم في طبيعة الموادّ المطلوبة للقراءة.‏
إن المشكلات السابقة كلها تُعبِّر بشكل غير مباشر عن وعينا بأهمّية القراءة للطفل، وبالثغرات التي تحول دون تلبيتها على الوجه السليم. ولكن ذلك لا يعني أننا لا نملك شيئاً إيجابياً في حقل قراءات الأطفال، بل يعني رغبتنا في التخلُّص من المشكلات التي تُبعد طفلنا عن أن يكون قارئاً حصيفاً مستعداً لاستقبال القرن الحادي والعشرين والعيش فيه، وهذا ما يدعونا إلى فحص أدب الأطفال المترجم لمعرفة أثره في الطفل العربي.‏

ثانيا: مشكلة الأدب المترجم:‏
هناك رأي سائد في الساحة الثقافية العربية، مفاده أن الترجمة هي المؤثّر الأساسي في نشوء أدب الأطفال عند العرب. وكنتُ صوَّبتُ هذا الرأي(6)، وانتهيتُ إلى أن أدب الأطفال بدأ بالتأليف وليس الترجمة(7)، ونهض بعبئه مربُّون عرب لمسوا حاجة الطفل- داخل المدرسة غالباً- إلى الأدب، وارتباطه به، وتأثيره التربوي والجمالي فيه. وقد آثرتُ التذكير بهذا الأمر هنا لئلا يعتقد أحد بأن أدب الأطفال وفد إلينا من الغرب بوساطة الترجمة كما وفدت الآلة والعلوم التطبيقية. ذلك لأن الترجمة لم تكن غير عامل من عوامل ظهور أدب الأطفال، نهض بها روّاد كعثمان جلال وأحمد شوقي وكامل الكيلاني، دون أن يخضع هذا العامل للتمحيص بغية التمييز بين الترجمة والمثاقفة. فلافونتين الذي استفاضت شهرته لدينا بعد ترجمة أحمد شوقي وعثمان جلال(8) حكاياته شعراً، قرأ (كليلة ودمنة) بعد ترجمتها من الفارسية إلى الفرنسية وقبل تأليفه حكاياته. بل إنه كتب حكاياته للكبار أساساً، فنقلها شوقي وجلال للأطفال دون أن يعيرا خطرها ومجافاتها الروح العربية أي اهتمام. ولم يكن كامل الكيلاني أفضل حالاً(9)، فقد ترجم ونقل واقتبس نثراً كثيراً من الحكايات المستمدّة أساساً من (ألف ليلة وليلة) كالسندباد البحري (1927)، على الرغم من أن شعره للأطفال(10) أكثر دقة في التعبير عن ريادته من القصص التي ترجمها ونقلها واقتبسها وبسَّطها وألبسها لبوساً عربياً ناصعاً.‏
وليس المراد من ذلك أن الترجمة لم تؤثّر في أدب الأطفال العرب، بل المراد أن موقع الترجمة في نشأة هذا الأدب تابع لموقع المثاقفة التي تلي التأليف. وما الترجمة إلا وسيلة من وسائل المثاقفة، فرضتها الحاجة إلى أدب الأطفال بعد انتشار التعليم وبروز الطفل في الساحة الثقافية والاجتماعية العربية. وإذا كانت بدايات أدب الأطفال المترجم ترجع في حدّها الأعلى إلى أوائل القرن العشرين، فإن ازدهارها لم يبدأ قبل الستينيات ولم يجاوز الثمانينات. بل إن العقدين الأخيرين شهدا انحساراً واضحاً في حركة ترجمة أدب الأطفال نتيجة نموّ التأليف، وظهور أدباء عرب يكتبون للطفل ويقدّمون نصوصاً فنيّة تلبّي حاجة الأطفال وتجعلهم أكثر ارتباطاً بواقعهم.‏
ويهمّني القول إن طبيعة أدب الأطفال المترجم لم تُدْرَس، ولم تُمحَّص آثارها الإيجابية والسلبية، اكتفاءً بالحديث الوصفي عن تاريخها. والظن بأن حديثي هنا يحاول تحقيق هذا الهدف، وإنْ كنتُ ميّالاً إلى الاهتمام بعلاقة هذا الأدب المترجم بالاختراق الثقافي.‏

1-طبيعة أدب الأطفال المترجم:‏
يُخيَّل إليَّ أن طبيعة أدب الأطفال المترجم تتجلّى في ثلاثة أمور، هي:‏
أ-تُرجم أدب الأطفال غالباً عن إحدى اللغتين الانكليزية والفرنسية، لأن هاتين اللغتين كانتا لغتي المستعمر الأجنبي الذي احتلّ الوطن العربي، وفرض لغته، وحصر البعوث التعليمية في بلاده. ولم تتغيَّر الحال بعد استقلال الدول العربية، إذ بقيت السيادة في الترجمة لهاتين اللغتين، لأن مترجمي أدب الأطفال تلقّوا تعليمهم بهما، ولم يكن العدد القليل من المترجمين الذين أتقنوا لغات أخرى قادراً على تعديل السيادة أو التخفيف منها. وربما كان أدب الأطفال المترجم عن الروسية في بعض الدول العربية، كسورية مثلاً، مؤهّلاً لاحتلال المرتبة الثالثة بعد الانكليزية والفرنسية، تبعاً لانصراف العائدين من البعوث العلمية إلى الاتحاد السوفييتي (سابقاً) إلى الترجمة عن الروسية، إضافة إلى أن داري التقدّم ورادوغا كانتا تترجمان أدب الأطفال إلى اللغة العربية، وتُصدِّرانه إلى الوطن العربي مترجماً بأثمان بخسة.‏
ولا شك في أن سيادة الترجمة عن الانكليزية والفرنسية قادت إلى أن يتعرّف الطفل العربي نصوص أدب للأطفال نابعة من بيئة مغايرة لبيئته، معبِّرة عن أيديولوجيا هذه البيئة وفهمها الطفل، وما يرتبط بذلك من قيم وموضوعات. كما قادت فوضى الترجمة، وفقدان التخطيط العلمي لها، واعتمادها على الرغبات الفردية للمترجمين، إلى خلل واضح في تلقّي الطفل العربي الأدب المترجم عن الانكليزية والفرنسية. إذ تداخلت النصوص التي تنتمي إلى تاريخ أدب الأطفال بالنصوص التي صدرت بعد الثلاثينيات وهو العقد الذي أعلن بداية الفهم الحقيقي العلمي للطفل، وبداية الكتابة له وليس عنه. وهكذا قرأ الطفل العربي نصوص الكتاب الفرنسي شارل بيرو (1628-1703) من القرن السابع عشر قبل أن يقرأ نصوص الكاتب الإغريقي إيسوب الذي عاش في القرنين السابع والسادس قبل الميلاد. كما قرأ الطفل العربي نصوص الكاتبة الانكليزية اينيد بلايتون (1900-1968) التي عاشت في القرن العشرين قبل أن يقرأ نصوص الكاتب الدانماركي هانز أندرسون (1805-1857) الذي عاش في القرن التاسع عشر، أو نصوص الكاتبة الفرنسية صوفي دي سيغور (1799-1884) التي عاشت في القرن الثامن عشر.‏
ومن المفيد القول إن هناك نصوصاً للأطفال تُرجمتْ عن الانكليزية أو الفرنسية لكُتَّاب من الهند والصين وألمانيا وإسبانيا وغيرها من الدول الأجنبية. وكان لذلك أثر سلبي آخر، هو أن النصوص تُرجمتْ أوّل الأمر من لغتها الأصلية إلى الانكليزية أو الفرنسية، ثم تُرجمتْ ثانية من الانكليزية أو الفرنسية إلى اللغة العربية. وفقدت، تبعاً لذلك، كثيراً من روائها وجمالها ودقّتها، وخصوصاً النصوص الشعرية التي حملت إيحاءات اللغة التي كُتبتْ بها، ثم فقدتها مرّة أخرى نتيجة انتقالها عبر اللغة الوسيطة إلى الطفل العربي.‏

ب-تأثّرَ الطفل العربي بموضوعات الأدب المترجم وقيمه. ولا شك في أن هذا التأثُّر ذو وجهين: وجه إيجابي تجلّى في اطّلاع الطفل العربي على عادات الأمم الأخرى وتقاليدها، وعلاقة أطفالها بمجتمعهم وأسرهم وأوطانهم. وهذا ما عزَّز لدى الطفل العربي مجموعة من القيم المعرفية والاجتماعية والوطنية والإنسانية، إضافة إلى المتع الفنيّة النابعة من الحكايات الشائقة والشخصيات المحّببة التي تستجيب لتطلّعات الطفل وحاجاته. أما الوجه السلبي فقد تجلّى في التركيز على العوالم العجيبة والغريبة، والشخصيات المستمدّة من الأساطير والحكايات الشعبية، وخصوصاً الجان والسحرة والكائنات الغريبة، وما يرتبط بذلك من خوارق كالطيران والسحر ومسخ الإنسان حيواناً وانقلاب الأحجار ناراً(11). وليس هذا الوجه خاصاً بالقصص التي ترجع إلى ما قبل ثلاثينيات القرن العشرين، بل هو عام، لاحظتّه في قصص (الأرنب والتمساح) لا ينيد بلايتون(12) حين منحت الأرنب القدرة على المكر والخديعة للإيقاع بحيوانات الغابة.‏
ويختلط أحياناً الوجهان الإيجابي والسلبي، فترى في قصة (أليس في بلاد العجائب) للكاتب الإنكليزي لويس كارول(1832 - 1896) شخصية محببة ومغامرات شائقة وتعاطفاً إنسانياً وعلاقات اجتماعية راقية. وترى في الوقت نفسه الخوارق والأشباح وعوالم باطن الأرض وتحوُّل الطفل إلى خنزير والبائعة إلى عنزة، وقيم القلق والخوف والاضطراب والخجل والتردّد. وقد تخلّصت القصص المترجمة عن البلغارية والروسية من مأزق الوجهين السلبي والإيجابي، فقدّمت قصصاً تُعْنَى بالوظيفة التربوية دون أن تتخلّى عن الحكايات والمغامرات والشخصيات المحبّبة، والأنسنة، وتزويد الطفل بقيم الحب والوطنية والمعرفة العلمية والتعاون، كما هي حال قصص (الأرنب قصير الأذن) لكيريل أبوستولوف(13)، و(الخاتم المعدني) لباوستوفسكي(14)، و(الضفدعة السائحة) لغارشين)(15)، و(دنيا الحكايات) لمجموعة من المؤلّفين(16) وغيرها.‏
ويهمّني القول إن الاختراق الثقافي للوظيفة التربوية التي يعمل الأدباء العرب على تجسيدها، ويعدّونها هدفهم الأساسي، بدأ بالأدب المترجم المعبّر عن أيديولوجية مغايرة للأيديولوجية العربية. وتوقيت البداية مبكّر نسبياً، ولكن تأثيره السلبي ضعف تدريجياً، نتيجة اهتمام الأدباء العرب بالكتابة للأطفال، وزيادة عدد القصص والقصائد والمسرحيات التي تراعي البيئة العربية وتربّي الطفل من خلال الأدب على التكيّف معها والارتقاء بها.‏

ج- تباينت لغة الترجمة بين ما تُرجم في النصف الأول من القرن العشرين، وما تُرجم في النصف الثاني منه. ففي الترجمات الأولى كان هناك حرص واضح على نقاء اللغة العربية ودقّتها وسننها وصورها وحوارها. بل إن الروّاد الأوائل اتّهموا بالمغالاة في التقيُّد باللغة العربية، فترجموا نصوص أدب الأطفال الشعرية والنثرية بلغة راقية يعجز الطفل العربي عن التواصل السليم معها أحياناً. أما الترجمات التي بدأت تترى في النصف الثاني من القرن العشرين، وخصوصاً السبعينات، فقد ضمر حرصها على اللغة العربية، وبات تقيُّدها بها فردياً تابعاً لقدرة المترجم وثروته اللغوية. ولم يكن غريباً أن يتصدّى للترجمة في أخريات السبعينيات وبدايات الثمانينات مترجمون ليس لهم نصيب وافر من العربية، كما هي حال الترجمة التي قدَّمتها رباب هاشم لمجموعة (الأرنب المخملي). وعموماً، فقد شرعت لغة الترجمة تقترب من لغة الطفل العربي، لأنها استبدلت بالسلامة والنقاء والدقّة والرغبة في تنمية معارف الطفل اللغوية معايير السلامة اللغوية والرغبة في إيصال المعاني بدقّة. بيد أن الشكوى من الضعف اللغوي لبعض المترجمين لم تنقطع من الساحة الثقافية العربية، تبعاً للحرص العربي على أن يتقن المترجم اللغة المترجم منها واللغة المترجَم إليها.‏

2-الاختراق الثقافي:‏
لا أشك في أن مصطلح (الاختراق الثقافي) يدل على مفهومين متناقضين، إيجابي وسلبي، ذلك أن أدب الأطفال المترجم يسهم في اتّساع أفق الطفل العربي ومعارفه، حين يُطلْعه على عادات الشعوب وأحوالها وتاريخها ونضالها ومفاهيمها للحياة والكون، وما إلى ذلك من أمور إيجابية. ولكنه في الوقت نفسه يُهدِّد قيم الطفل العربي وعاداته وتقاليده وارتباطه بأسرته ومجتمعه ووطنه وأمته حين يطرح قيماً مناقضة لها، نابعة من أيديولوجيّته وبيئته وتاريخه. والواضح بالنسبة إليَّ أن الدلالة الإيجابية لمفهوم (الاختراق الثقافي) انتقلت إلى مصطلح آخر هو (المثاقفة)، وبقيت الدلالة السلبية لصيقة بمصطلح (الاختراق الثقافي). ومن ثمّ أصبح الاختراق الثقافي دالاً على مفهوم العمل الثقافي الذي يُراد منه خلخلة ثقافة معيّنة، وجعْلُ معتنقيها يشعرون بضعف الثقة بثقافتهم، وبالحاجة إلى تبديلها باعتناقهم ثقافة القويّ الغازي، والتماهي بقيمها وعاداتها وتقاليدها، دون أيّ تمييز بين الحضارة والمدنيّة.‏
وإذا كان الأدب ذا طبيعة إيجابية دائماً، فلماذا نخاف على أطفالنا من الاختراق الثقافي بوساطة الأدب المترجم؟ أعتقد بأن كل أمّة تُنتج أدباً لأطفالها ملائماً لها، معبِّراً عن نظرتها إلى الطفل في حاضره ومستقبله، عاملاً على إمتاعه ومساعدته على التكُّيف مع مجتمعه وإعداده للمستقبل. ولا يتوقّع أحد أن يكون هذا الأدب سلبياً من وجهة نظر أصحابه ومنتجيه، ولكنه يتوقّع أن تتباين الأمم في ثقافاتها، وأن تسعى الأمم القوية إلى فرض ثقافاتها على الأمم الضعيفة لتمحو هويّتها وتجعلها تابعة لها. وهذا ما نشهده اليوم في عصر المعلومات والتقنيات والأقمار الصناعية. وهو عصر يجعل الأدب المترجم وسيلة لتغريب الطفل العربي عن واقعه ومجتمعه وأمته، لأن هذا التغريب هو الهدف الأساسي للاختراق الثقافي ببعديه السياسي والاجتماعي، وهذا إيجاز لهذين البعدين.‏

أ-البعد السياسي للاختراق الثقافي:‏
يُقدّم الأدب المترجم موضوعات وقيماً تُعبّر عن أيديولوجيّة منتحية. فالأرنب شخصية عالمية محبّبة للطفل، ولكن اينيد بلايتون في مجموعتها (الأرنب والتمساح) جعلت الأرنب يتفوّق على التمساح، ويخدعه في مكمنه فيأكل بيوضه وينجو بنفسه، دون أيّ عقاب(17). ولا يختلف ذلك عمّا فعله الأرنبُ بالثعلب في قصة (الثعلب والخوخات البيض)(18). أي أنه يستخدم دائماً المكر والخديعة في التفوّق على الحيوانات الكبيرة في الغابة. أما الأرنب في مجموعة (الأرنب قصير الأذن) للكاتب البلغاري كيريل أبو ستولوف فهو أرنب مسالم صديق للحيوان، يحاول أن يتعلّم ويفهم كما هي حاله في قصة (حديث مع النجمات)(19).‏
ماذا يعني ذلك على المستوى الأيديولوجي؟. إنه يعني اختلاف أيديولوجيّتين، ويتجسّد التعبير عن هذا الاختلاف في فكرة (الصغير). فالأيديولوجيا الأولى الرأسمالية تعتنق فكرة تغلُّب الصغير على الكبير بالمكر والخديعة. وهذا واضح من أن الأرنب صغير في حجمه، ولكنه يتفوّق بالمكر على التمساح والثعلب وهما كبيران، كما هي الحال تماماً في أفلام الرسوم المتحركة المصنوعة في الولايات المتحدة، كتوم وجيري وميكي ماوس وما إلى ذلك. أما فكرة (الصغير) في الأيديولوجيا الثانية (البلغارية- الاشتراكية) فهي المرحلة العمرية التي يعيش فيها الصغير، ويحاول في أثنائها تعرُّف العالم المحيط به، ويسعى إلى التجربة التي تقوده إلى معرفة الحياة. وهذا يعني أنه صغير لا يناهض الكبير ولا يعاديه، بل يصادقه ليتعلّم منه. ولهذا السبب تكثر في هذه الأيديولوجيا صور الأرنب العجوز، وهي صور معبِّرة عن فكرة (العجوز) الحامل للمعرفة، الراغب دائماً في نقلها إلى (الصغار).‏
وإذا كانت الأيديولوجيا الأولى (الرأسمالية) تُعبِّر ضمن خطابها عن شخصيات مماثلة للأرنب، كالفأر ميكي وبوباي، فإن تعبيراتهما الأخرى لا تختلف عن ذلك، سواء أكنا نتحدّث عن أشرطة حرب الكواكب أم السوبرمان أم غريندايزر. ذلك أن الهويّة التي تطرحها من خلال الأدب المترجم هوّية معبِّرة عن أيديولوجيّتها. تلك أيضاً حال الأيديولوجيا الثانية (الاشتراكية)، فهي تُعبِّر ضمن خطابها عن شخصيات مماثلة للأرنب، كالكلب والقنفذ، ولا تختلف تعبيراتها الأخرى عن الدعوة إلى السلام والتعاون وحب الناس والطبيعة، وما إلى ذلك مما هو معبِّر أيضاً عن هويّتها النابعة من أيديولوجيّتها.‏
وإذا كانت الأمم تُعبِّر عن هويّتها من خلال أدبها، فإن سيادة أدب ما في موطن أدب آخر ستعني واحداً من أمرين، الأول: محاولة سلب الهوية الحضارية العربية الإسلامية إذا كانت قيم الهوية في الأدب المترجم مناهضة قيم الهوية العربية الإسلامية. والثاني: تعزيز الهوية الحضارية العربية الإسلامية إذا كانت قيم الهوية في الأدب المترجم منسجمة وقيم الهوية العربية الإسلامية. ويُخيَّل إليَّ أن البعد السياسي للاختراق الثقافي كامن في سيادة الأدب المترجم المستمد من الأيديولوجيا الرأسمالية، لأن سيادة هذا الأدب تُعين على إغراء الطفل العربي بالعالم الغربي، وتجعله شيئاً فشيئاً يغترب عن هويّته ويسعى في مستقبله، مراهقاً وراشداً، إلى اللحاق بالهوية التي رسخت فيه من خلال الأدب المترجم الذي قرأه.‏

ب-البعد الاجتماعي للاختراق الثقافي:‏
تخلق موضوعات الأدب المترجم المستمد من الأيديولوجيا الرأسمالية عالماً وهمياً، تضع الطفل العربي فيه، وتدفعه إلى التغريب من خلاله. قد يكون العالم في هذا الأدب عالم الغابات والبحيرات والكهوف وناطحات السحاب والكواكب والجزر المأهولة والنائية والأساطير.. ولكن هذا العالم وهميّ بالنسبة إلى الطفل العربي، لأنه لا يعثر عليه في واقعه، فينقم على هذا الواقع ويحاربه(20). وضمن هذا العالم يرى أبطالاً وهميين بدلاً من أبطال الواقع العربي، كما يرى أوهاماً علمية بدلاً من العلم. وتكرار هذا العالم الوهمي في الأدب المترجم يجعل الطفل العربي يغترب عن مجتمعه وثقافته، ويرنو إلى ثقافة وهويّة أخرى، مما يسلبه هويّته الحضارية ويلحقه بأخرى لا أمل له في الوصول إليها خارج الخيال. وإذا كان مجتمع الطفل العربي لا يُقدِّم له ما يساعده على بلوغ الهوية المرجوّة، فإن الطفل العربي يستعدّ للاغتراب عن مجتمعه عندما يصبح مراهقاً، ويغدو -وهو راشد- بعيداً عن هذا المجتمع، قريباً من الجنوح.‏

3-مواجهة الاختراق الثقافي:‏
لا شيء في عصر العلم والتقنيات الحديثة وثورة المعلومات وسيادة الأقمار الصناعية يستطيع تحصين الطفل العربي من الغزو الثقافي إذا بقيت الأمة العربية في موقع المنفعل، ولم تبادر إلى مواجهة هذا الغزو بعقلانية وعمل علمي دؤوب. وإذا قصرتُ الحديث على مواجهة الاختراق الثقافي من خلال الأدب لاحظتُ أن المواجهة تفرض الأمور الآتية:‏

أ-الانفتاح على أدب أطفال الأمم المجاورة لنا، وخصوصاً الإفريقية والآسيوية، بترجمة نصوص أدب أطفالها من لغاتها إلى اللغة العربية دون اللجوء إلى اللغة الوسيطة. وهذا الانفتاح كفيل بتعزيز قيم الطفل العربي، لأن أدب الأطفال عند هذه الأمم يجاهد جهادنا نفسه للتحرُّر من السيطرة الثقافية، ويُعبِّر بوساطة أدبه الموجَّه للطفل عن واقع لا يختلف كثيراً عن واقعنا العربي. لا بأس في أن يمتدّ هذا الانفتاح إلى الأمم المتقدّمة التي لا ترغب في السيطرة الثقافية، كاليابان والصين مثلاً. فأدب الطفل في اليابان -على سبيل التمثيل لا الحصر- يغرس قيم التضحية والعمل الجماعي والتفاني في سبيل الأسرة، وهي القيم التي نعمل على أن نغرسها في الطفل العربي.‏
ب-التجويد الفنيّ للأدب الموجَّه للطفل. إذ إن السمة الواضحة لأدب الأطفال في الولايات المتحدة وانكلترة وفرنسة هي الحرص على تقديم نصوص فنيّة شائقة، تشدّ الطفل إليها بما تطرحه من حوادث وشخصيات. وهذا أمر نرنو إليه بعيداً عن القيم التي يُعبِّر الأدب نفسه عنها. فالحكاية الماتعة هدف يتقدّم على الوظيفة التربوية ولا يتخلّى عنها. ولا بدّ من العناية بالصوغ الفنّي للأدب إذا أردنا تحقيق الهدفين الجمالي والتربوي.‏

ت- لا بدّ لنا- كما سبق القول في أثناء الحديث عن الأدب الموحّد-من إنجاز منظومة القيم العربية الإسلامية إذا أردنا لأدب الطفل أن يُعبّر عن قيم متكاملة، تخلق شخصية قادرة على التكيُّف مع مجتمعها ووطنها وأمتها وتاريخها، والتحلّي بهويتها الحضارية وبالقدرة على مواجهة الاختراق الثقافي مهما تكن مؤثراته قويّة.‏

ث-لا بدَّ من السعي إلى بناء صناعة ثقافية راقية، يندرج الأدب المترجم فيها، بحيث يحبّ الطفل ما ترجمناه من أدب، ويُقبْل على قراءته، لأنه مناسب له مقاساً ولوحات ولغةً ومضموناً. وهذه الصناعة الثقافية تكفل مراقبة الموضوعات والقيم، وتتشبَّث باللغة العربية المستمدة من معجم الطفل، وتعرقل السهولة في ترجمة الأدب ونشره.‏
وليست قضية مواجهة الاختراق الثقافي مقصورة على الاقتراحات السابقة، لأنها قضية الحاضر والمستقبل. ومن ثمّ نحتاج إلى إنعام نظر فيها من الهيئات والمؤسسات والوزارات، إضافة إلى الأفراد الأدباء والباحثين في علم النفس والاجتماع. وقبل ذلك كله يحسن النظر إلى هذه المواجهة نظرة كليّة، لا تختلف بين الكتاب والتلفاز والإذاعة والمسرح. كما أن الجهود المبذولة من أجلها يجب أن تتكامل بين الأدب والتربية ووسائل الإعلام، ولهذا السبب سأفحص في الفقرة القابلة علاقة الإعلام بلغة الطفل، تبعاً للارتباط الوثيق بين الهوية العربية الإسلامية وإتقان اللغة العربية الفصيحة.‏

ثالثاً: مشكلة إعلام الطفل واللغة:‏
لا يشك أحد في أن وسائل الإعلام تؤثّر في الطفل، فتوسّع مداركه، وتزوّده بالمعارف والخبرات، وتغرس فيه القيم، وتلّبي حاجاته الفكرية والنفسيّة والجماليّة، وتبعث الحياة في مخيّلته، وتجعله قادراً على التكيُّف مع محيطه. ولا يتحقّق هذا كله إذا لم تتوافر ثلاثة أمور:‏
الأمر الأوّل: التخطيط العلمي الواعي لأهداف التثقيف والتنشئة الاجتماعية.‏
والأمر الثاني: اللغة الملائمة للايصال، النابعة من معجم الطفل اللغوي.‏
والأمر الثالث: المعرفة العلمية بطرائق الطفل في اكتساب اللغة العربية.‏
وليس هناك تباين بين هذه الأمور الثلاثة، بل هناك تكامل بينها من جهة، وبين إعلام الطفولة والتربية من جهة أخرى. وكل خلل في هذا التكامل يؤثّر تأثيراً سلبياً في شخصية الطفل ولغته، فيورّثه صراعات عصابية، ويجعله يتلكّأ في إتقان لغة أمّته، أو يعجوز عن الإحاطة بمهارتها الأساسية.‏
ومن المفيد، قبل الحديث عن علاقة إعلام الطفولة باللغة، القول إن المراد بإعلام الطفولة هنا هو الإعلام المرئي والمسموع والمقروء الموجّه خصيّصاً للطفل العربي، سواء أكان تلفازاً أم إذاعة أم مجلّة أم صحيفة، وسواء أكان محتواه دراميّاً أم قصصياً أم معرفياً أم ترفيهياً أم دعاوة وإعلاناً. والقيد العامّ للحديث عن إعلام الطفولة هنا هو استعمال اللغة منطوقة أو مكتوبةً أو مسموعةً، لأن الهدف الأساسي لهذا الحديث هو تحديد العلاقة بين الإعلام ولغة الطفل.‏

أوّلاً: اللغة في الخطاب الإعلامي:
اهتمّ المسؤولون عن إعلام الطفولة العربية بمحتوى خطابهم الإعلامي أكثر من اهتمامهم بلغته. وهذا واضح من تصريحاتهم ومعايير اختيارهم للموادّ المقدّمة للطفل. فهم يُفضّلون المادّة التي تُرسّخ قيمة إيجابية أو معرفة علمية أو تخصّ على سلوك اجتماعي مرغوب فيه. أما اللغة، وهي شكل خطابهم، فاهتمامهم بها عامّ جداً وغير علمي، لأنه مقصور على إيثارهم اللغة العربية الفصيحة ونفورهم من العاميّة. بل إنني ميّال إلى أن إيثار الفضيحة والنفور من العاميّة علامة على الموقف الراهن من اللغة في الخطاب الإعلامي العربي الموجّه للطفل. وهذا الإيثار موروث من المرحلة السابقة، مرحلة نشأة الإعلام الموجّه للطفل العربي. ففي مرحلة النشأة كانت السمة البارزة هي التدقيق في محتوى الخطاب، والاقتصار في شكله على الصراع بين الفصيحة والعاميّة. وقد رسّخت هذه المرحلة معايير ذات شأن، بعضها عام وبعضها الآخر خاصّ. فالعامّ الذي يشمل إعلام الطفل العربي كله هو التشبُّث بالقيم الإيجابية وطرائق غرسها في الأطفال، وتنويع المحتوى العلمي والأدبي، وربط النصوص بالبيئة. أما المعايير الخاصة فقد اختلفت بين التلفاز والإذاعة والمجلّة. ففي التلفاز كان هناك حرصٌ على المسلسلات المؤلفة خصيّصاً للطفل العربي، وتخلُّصٌ من الترجمة المكتوبة المرافقة للمسلسلات الأجنبية. وفي المجلات كان هناك اهتمام بالإخراج والطباعة والألوان وتنويع الموادّ المقروءة. وانصرفت عناية الإذاعة إلى المؤثّرات الصوتية.‏
والأمل ألا يفهم أحد أن الآثار السلبية للمرحلة السابقة قد تلاشت نهائياً، وأن محتوى إعلام الطفولة في الوقت الراهن ارتقى إلى مستوى الأماني، وارتفع فوق النقد. ففي هذا الإعلام من السلبيات ما يدفع الباحث إلى اليقظة لئلا يضيع الطفل في غابة الرسائل التلفازية الغزيرة، فيتخلّى عن قراءة الكتاب والمجلّة، ويتدنّى تحصيله المدرسي. ويهمّني القول إن مرحلة النشأة ترجَّحت أوّل الأمر بين الشكل الفصيح للخطاب الإعلامي والشكل العاميّ، ثم حسمت هذا الترجُّح باعتماد اللغة العربية الفصيحة. بل إن البرامج والمجلات الوافدة إلينا عُرّبتْ بالفصيحة نفسها، وأُرسلتْ إلينا ناطقة بها. وقد ورثنا اللغة الفصيحة في شكل الخطاب الإعلامي، وأصبحت عواطفنا اللغوية مطمئنّة إلى أن لغة الخطاب الإعلامي موحَّدة موحِّدة للأطفال العرب.‏
بيد أن الاطمئنان العاطفي شيء، والاطمئنان العلمي شيء آخر. ذلك أن قضية لغة الخطاب الإعلامي الموجّه للطفل العربي تكمن في (الإيصال)، إيصال محتوى الخطاب بوساطة اللغة. وقد حوّلت قضية الإيصال السؤال المنهجي من الاطمئنان للغة الفصيحة إلى البحث عما إذا كان المحتوى الإعلامي يصل إلى الطفل العربي بوساطة هذه اللغة. والواضح بالنسبة إليّ أن التلفاز - وهو أكثر وسائل الإعلام أهميّة وخطورة- أعلن هذا التحوّل إلى اللغة القادرة على الوصول إلى الطفل العربي. وكان برنامج (افتح يا سمسم) الذي أنتجته مؤسسة الخليج للانتاج البرامجي تحدّياً كبيراً في هذا الحقل، لأن الدراسات اللغوية التي مهدّت لهذا البرنامج برهنت على أن قضية اللغة في الخطاب الإعلامي غير مقصورة على اللغة الفصيحة، بل هي القدر الملائم للطفل العربي من هذه اللغة، بحيث يصحّ القول إن هناك لغة خاصة بالطفل، وأخرى خاصة بالراشدين، ضمن اللغة الفصيحة نفسها. فإذا رغب الخطاب الإعلامي في الوصول إلى الطفل فإنه مطالب باصطناع لغة عربية فصيحة مستمدّة من معجم الطفل نفسه. وهذا يعني أن العلاقة بين إعلام الطفولة واللغة ليست علاقة بسيطة أو تابعة للعواطف اللغوية القومية، بل هي عمل علمي واع، رائدة اصطناع شكل لغوي فصيح لإيصال المحتوى الإعلامي، يفهمه الطفل ويتفاعل معه، ويتمكّن من التأثير فيه.‏

ثانياً- الطفل العربي واللغة:‏
العلاقة بين الطفل واللغة هي التي تُحدّد العلاقة بين شكل الخطاب الإعلامي ومحتواه، لأن وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية قادرة على تكييف خطابها إذا كانت تعرف لغة الطفل المخاطب معرفة علمية. وهذه المعرفة- في رأيي- معرفتان: معرفة بطريقة الطفل العربي في اكتساب اللغة الفصيحة، ومعرفة بمعجمه اللغوي. وساُقدّم بعض التفصيلات والآراء حول هاتين المعرفتين لأهميّتهما وخطورتهما، محذّراً بادئ الأمر من أن الدراسات اللغوية العربية الخاصة بالطفل ما زالت ضعيفة تابعة للجهود الفردية.‏

أ-اكتساب الطفل العربي اللغة:‏
يبدأ الطفل العربي، كغيره من أطفال الأمم الأخرى، يكتسب اللغة من ولادته، حتى إن اللغويين يعدّون فترة المناغاة دليلاً على الاستعداد لتلّقي اللغة(21). والذي تهمّني الإشارة إليه هو أن الطفل يملك كفاءة لغوية، أو قدرة فطرية على اكتساب اللغة المستعملة في محيطه. وهذه القدرة اللغوية الفطرية تُمكّنه من (تكوين الفرضيّات واستعمال قواعد خاصة به، يُعدّلها باستمرار إلى أن تُشْبه القواعد التي تحكم لغة الكبار)(22) وكأنه (يعلم بشكل آلي أن اللغة محكومة بقواعد معيّنة عليه اكتشافها)(23). وتُعْزى نظرية القدرة اللغوية الفطرية إلى العالم الأمريكي اليهودي نوام تشومسكي. وقد نُوقشت هذه النظرية كثيراً، فأثبت اللغويون صحّتها(24)، وأضافوا إليها قولهم إن الطفل لا يتخلّى عن فرضية قديمة بمجرّد اكتشافه فرضيّة جديدة، بل يتمسّك بالقديمة فترة تطول أو تقصر(25). وهذا يدّل على أنه يملك عقلاً نشطاً ذا تركيب معقّد جداً، يسمح له باستنباط قواعد اللغة. وقد قوَّضت نظرية القدرة الفطرية ما كان شائعاً حول العلاقة الوثيقة بين مستوى الذكاء واكتساب الطفل اللغة. فالطفل، أي طفل، مفطور على تعلّم اللغة البشريّة، بل إن لديه قدرات لغوية بيولوجية وعقلية وعصبية تساعده على اكتساب لغة محيطه، سواء أكان مستوى ذكائه منخفضاً أم مرتفعاً. كما قوّضت نظرية القدرة الفطرية رأياً آخر شائعاً، هو أن تدريب الوالدين طفلهما على اكتساب اللغة كفيل بإتقانه لغة محيطه. والمراد من هذا التدريب تمكين الطفل من اللغة، لأنه لا يستطيع ذلك وحده. وهذا الرأي غير علمي، لأن الطفل يتمكّن من إتقان لغة محيطه، سواء أكان هناك مَنْ يُدرّبه على ذلك أم لم يكن. وليس للتدريب من أهميّة غير الإسراع في الإتقان ونوعيّته.‏
وما هو أكثر خطورة في الدراسات اللغوية الحديثة يكمن في أن الطفل يكتسب اللغة في سنّ مبكّرة جداً لا تُجاوز الخامسة من عمره، ويبطئ في إتقانها بعد ذلك إلى أن تتلاشى قدرته على تعلّمها بين الثانية عشرة والرابعة عشرة من عمره. والقاعدة العامّة في ذلك هي أن التعلّم ينخفض كلما زاد عمر الطفل، ويرتفع في سنواته الأولى. ففي هذه السنوات الأولى يتعلّم المبادئ المتعلّقة بتصنيف المفردات اللغوية في أُسَر. وكان الاعتقاد السائد أنه يتعلّم في هذه السنّ مفردات متفرّقة مبعثرة. وقد انطلق هذا الاعتقاد من ملاحظة الطفل وهو يستعمل الكلمات المفردة وحدها. والجديد في حقل اكتساب اللغة أن استعمال الطفل هذه المفردات لا يعني أن تعلّمه يجري على هذا النحو من إتقان الألفاظ، بل يعني أنه يستعمل هذه الكلمات ضمن مفهوم المجموعات أو الأسر، (فكلمة كرسي مثلاً تشير بالنسبة إلى الطفل إلى أسرة الكراسي جميعاً بغضّ النظر عن أحجامها وألوانها والموادّ المصنوعة منها. كما أنه يكتسب أوّلاً الأسس التي بموجبها يمكنه تركيب الأصوات مع بعضها بعضاً بحيث تنتج عنها الكلمات)(26). وقد أثبت لوي بلوم (أن الأطفال في هذه السنّ المبكّرة جداً، بين العام الأول والرابع، خلاّقون في اللغة التي يستعملونها بدليل استخدامهم تراكيب لم يسمعوها من قبل)(27).‏
ولكن اللغويين الذين اكتشفوا القدرة الفطرية، وبحثوا في جوانبها، غربيّون. وليس لنا، نحن العرب، من فضل غير متابعتهم في هذا الاتجاه، لأنهم نصّوا صراحة على أن هذه القدرة عامّة شاملة الأطفال في الحضارات كلها. غير أن هذه المتابعة تفرض علينا مسؤوليّات الإفادة والحذر، وتنبِّهنا على الخطر الذي يحيق بطفلنا العربي. أما الإفادة فسأشير إليها في أثناء حديثي عن أثر الإعلام في لغة الطفل، وأما الحذر فنابع من أن طفلنا العربي الذي لا يختلف في شيء عن أطفال العالم يكتسب بقدرته الفطرية عاميّة محيطه ، ولا يكتسب اللغة الفصيحة. وحين يدخل المدرسة الابتدائية في السادسة من عمره يتباطأ تعلُّمه العاميّة لإتقانه لها، كما يصعب تعلُّمه اللغة الفصيحة. وهذا يعني أنه دخل المدرسة في سنّ لا تّعينه على تعلُّم الفصيحة، أو في سنّ لا تساعده على تعلّمها. إضافة إلى أن المطلوب هو تعليمه اللغة الفصيحة بدلاً من العاميّة، وتدريبه على مفرداتها وتراكيبها ومهاراتها بتدرُّج يزيد البطء بطئاً. وهذا إشكال عضال، لا حلَّ مرتجى له غير تعميم مرحلة رياض الأطفال (بين 3-5 سنوات)، والتركيز فيها على تعلُّم اللغة الفصيحة.‏

ب-المعجم اللغوي للطفل العربي:‏
كنّا، قبل عام 1989، نسعى جاهدين إلى التنبيه على أن الكتابة للطفل العربي ستبقى عشوائية إلى أن نتمكّن من صنع معجم الطفل العربي(28). وكان مسوّغنا آنذاك هو الإيمان بوجود لغة خاصة بالطفل مغايرة للغة الراشدين وإنْ صُنِّفت في حقل اللغة العربية الفصيحة. ولم يكن صوتنا معزولاً عما كان اللغويون والتربويون العرب ينهضون به بدأب وصمت وهمّة لا تعرف الكلل والملل.‏
وقد تميّز عام 1989 بإصدار الرصيد اللغوي العربي لتلاميذ الصفوف الستة الأولى من مرحلة التعليم الأساسي، وهو مشروع حضاري عظيم أنجزته المنظّمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ووضعته بين أيدي العاملين في التربية والثقافة والإعلام ليفيدوا منه في شكل خطابهم للطفل العربي. وقد ضمَّ هذا الرصيد المفردات التي ضمّتها الكتب المدرسية في المرحلة الابتدائية، إضافة إلى المفردات التي استعملها تلاميذ الصفوف من الثالث إلى السادس في تعبيرهم المكتوب، ومنطوقهم التلقائي.‏
وقد صُنّفت هذه المفردات بحسب صفوف المرحلة الابتدائية، وتبعاً لمفهوم علمي ولغوي دقيق، مفاده تقسيمها إلى مجموعات عامة تخص جسم الإنسان وحياته الاجتماعية والاقتصادية، والحيوانات والكون والطبيعة والزمان والدولة والعَدّ والتقدير وأدوات المعاني والأفعال والأسماء.. وجُزّئتْ بعض المجموعات، كما هي الحال في جسم الإنسان(29)، إلى أجزاء وُزّعت المفردات فيها بحسب الأعضاء والحواس والحياة العاطفية والعقلية والنظافة والمرض والحوادث والرياضة والترفيه والطعام والشراب والملابس والسكين..‏
هذا الرصيد اللغوي نواة معجم الطفل العربي، لأنه يحتاج إلى وضع المفهومات والشروحات إلى جانب كل مفردة من المفردات ليس غير. والحديث عن هذا الرصيد ذو شجون، ولكنني هنا معني بالقول إن هذا الرصيد يحتاج إلى تعزيز، مفاده دراسة التراكيب العربية التي يستعملها الطفل في هذه الصفوف، وتلك التي يحتاج إليها في الصفوف نفسها، بغية بناء الكتب المدرسية والمؤلفات العلمية والأدبية استناداً إليها. ولا بدّ في الوقت نفسه من العودة إلى مرحلة الرياض لبنائها مفردات وتراكيب بناءً علمياً بعيداً عن الارتجال والعشوائية، لأن ذلك كفيل بالقضاء على كثير من الخلل في تعلّم الطفل العربي لغة أمّته، وتصويب الاعتقاد السائد بأن هذا الخلل عائد إلى طرائق تعليم اللغة الفصيحة في المرحلة الابتدائية، وإلى القائمين على تعليم هذه اللغة في المرحلة نفسها.‏

ثالثاً- أثر الإعلام في لغة الطفل:‏
يعينني الحديث السابق على القول إن الإعلام لا يستطيع التأثير في لغة الطفل تأثيراً إيجابياً إذا لم يستند شكل خطابه إلى معرفة علمية بحاجات الطفل وقدرته على اكتساب اللغة. والحقّ أننا مطالبون هنا بالتمييز بين الإعلام المرئي والإعلام المقروء. فالإعلام المقروء عندنا مخصّص لأطفال المرحلة العليا، وخصوصاً الأطفال من التاسعة إلى الثانية عشرة، لأن هؤلاء الأطفال قادرون على قراءة الموادّ التي تضمّها المجلات والصحف الخاصة بهم. ولا بدّ لهذه المجلات في المرحلة الراهنة من الاحتكام في كل ما تنشره إلى الرصيد اللغوي العربي. وهذا الاحتكام هو الذي يجعل موادّها مؤثّرة في الطفل، لأن شكلها مستمدّ من اللغة التي يستعملها. وليس هناك تعارض بين الاحتكام إلى الرصيد اللغوي والإبداع في النصوص القصصية والمسرحية والشعرية. إذ أن الكاتب مطالب بالإبداع، ولا بدَّ من أن نُعزّز لديه هذا الهدف النبيل. ولكن النص الذي يُقدّمه المبدع قابل بعد تأليفه إلى الاحتكام للرصيد اللغوي، بحيث تُعدّل ألفاظه بما لا يسيء إلى جماليته، وهذه مهمّة العاملين في الإعلام المقروء والمبدعين معاً، وإلا فإن خطاب الإعلام المقروء سيبقى عشوائياً مستنداً إلى العمل الفردي مهما يكن مستواه الفنيّ جيداً عند النقّاد.‏
وإذا كانت المجلات الموجّهة لطفل المرحلة العليا تسعى من خلال اعتمادها الرصيد اللغوي العربي إلى ترسيخ عادة المطالعة في الطفل العربي، فإنها مطالبة بألا تنسى منافسة التلفاز لها. كما أن سعيها إلى التشبَّث بهدفها يحتاج إلى أن تُجدّد نفسها دائماً، فتُنوّع موادّها، وتجعلها أكثر جاذبية للطفل، وأكثر التصاقاً بحاجاته ورغباته. ولا تتورّع عن التسلية الموظّفة لأغراض معرفية، وعن ملاحقة الأطفال لمعرفة آرائهم فيها، واقتراحاتهم لتطويرها. إضافة إلى العناية بشكلها وطباعتها وإخراجها، والتزامها بمواعيد إصدارها. وهذا كله كفيل بجعلها جذّابة للطفل، تشدّه إليها وتتمكّن من خلال ذلك من الارتقاء بلغته من العاميّة إلى الفصيحة، أو تُضيّق الشُّقّة بينهما. وتستطيع هذه المجلات -إذا ما خطّط لها- تنمية مهارات الطفل اللغوية، والتكامل مع تحصيله اللغوي في المدرسة، والتخفيف من الآثار السلبية للتلفاز في لغته.‏
على أن هذا السعي لن يكون ذا جدوى كبيرة إذا لم يكن هناك نوعان آخران من المجلات المقروءة: الأول خاص بالأطفال من السادسة إلى التاسعة، والثاني خاص بأطفال الرياض. ذلك لأن الطفل الذي يقرأ المجلات الموجّهة للمرحلة العليا بدأ يدخل مرحلة البطء في اكتساب اللغة العربية الفصيحة. وهذا الأمر يُقدم مسوّغاً جوهرياً لإنشاء مجلات تغطي مرحلة الرياض والمرحلة بين السادسة والتاسعة. فالطفل في هاتين المرحلتين أكثر استعداداً لاكتساب اللغة، ومن ثَمَّ تؤثِّر المجلة المقروءة فيه، فتنمّي مفرداته، وتُرسّخ لديه التراكيب العربية، وتساعده على إتقان لغة أمّته بدلاً من انصرافه إلى العاميّة وحدها. وسأحلّل في القسم الثاني من هذا الكتاب نموذجاً من الإعلام المقروء بغية توضيح إسهاماته في تكوين ثقافة الأطفال.‏
أما الإعلام المرئي والمسموع فيكاد التلفاز يعتلي ذروة التأثير فيه. إذ إنه يلاحق الطفل في منزله، ويتفنّن في الموادّ الدرامية والمعرفية التي يقدّمها له. ولهذا السبب يسيطر عليه، ولهذه السيطرة جانبان: إيجابي وسلبي. يتجلّى التأثير الإيجابي في توسيع التلفاز مدارك الطفل ومعارفه ومفاهيمه، وفي تقديم المتعة له. ويتجلّى التأثير السلبي في أنه يُجسّد له الصور المتخيّلة بدلاً من إثارة مخيّلته وحثّها على ابتداع الصور الذاتية، إضافة إلى أنه جذّاب ماتع يصرف الطفل عن القراءة أو يُقلّل من أهميّتها لديه، كما يصرفه عن السلوكات الأساسية في تنشئته وتكيُّفه مع مجتمعه(30). وربّما شجَّعه على شيء من الموقف السلبي من كتابه المدرسي، لأنه يرى في التلفاز عالماً يضجّ بالحيوية والحركة، مرتبطاً بالجديد في المجتمعات البشرية وبالواقع الذي تتحرّك فيه، في حين يرتضي كتابه المدرسي المواقف البسيطة، المفتعلة أحياناً، والخطابية في كثير من الأحايين، أو المواقف التي تُصوِّر واقعاً مثالياً بعيداً عن السلبيات، أو واقعاً محكوماً بالماضي في مقابل واقع التلفاز المحكوم بالحاضر. وليس معنى ذلك كله تنفير الطفل من مشاهدة التلفاز، بل معناه ضبط عادات المشاهدة لديه(31)، والسعي إلى أن يتكامل التلفاز مع تحصيل الطفل اللغوي في المدرسة. وقد أثبتت البرامج اللغوية التي أحسن صنعها وإخراجها قدرتها على تنمية معارف الطفل اللغوية، ومهاراته، ومساعدته على الارتقاء بلغته، وتضييق الشُّقَّة بين الفصيحة والعاميّة فيها.‏
ولا أشك في أن التلفاز قادر على أن يصل إلى الأطفال في مراحلهم العمرية كلها. ولهذا السبب يحسن توظيفه لخدمة التنمية اللغوية، فلا يُكرّر ما فعلته مجلات الأطفال حين قصرت أسماءها على الذكور (أسامة- ماجد- حسن- أحمد...)، أو حين اعتمدت ضمير المذكّر في شكل خطابها استناداً إلى التغليب المعروف في اللغة العربية. وبذلك وحده ينتقل الإعلام المرئي والمسموع من كونه أداة للمحافظة على الأوضاع اللغوية الراهنة إلى أداة تغيير وتنمية. كما ينتقل من الانفصال عن التربية إلى التكامل معها، ومن سلوكيات الترفيه والتسلية إلى سلوكات البناء السليم للشخصية القومية التي تعتزّ بلغتها وتحترمها وتسعى إلى إتقانها. ومن المفيد في الحالات كلها أن يعي المسؤولون عن برامج الأطفال في التلفاز قدرة الطفل الفطرية على اكتساب اللغة، فيفيدوا منها في صنع برامج لمرحلة الرياض، تساعد الأطفال على إتقان المهارات اللغوية الأساسية في المحادثة والتعبير، وتُؤهِّلهم للمضي في تعلّمها ذاتياً، وتُحبِّبهم بنصوصها، وتربطهم بتراثها وحاضرها، وتُشجِّع ملكة الابتكار اللغوي لديهم، وتُنمّي رصيدهم من خلال استعمالها له وإضافتها إليه.‏

الإحالات:‏
1-كشف البحث العلمي عن أسباب جسدية تعوق القراءة، منها ضعف السمع ونقص الغذاء وعدم انتظام الغدد وقصور الجهاز العصبي والدورة الدموية. انظر ص200 من: أبو هيف، عبد الله- أدب الأطفال نظرياً وتطبيقياً- اتحاد الكتاب العرب- دمشق 1983، نقلاً عن: سيكولوجية القراءة لمحمد لبيب النجيحي.‏
2-انظر هذه الأسباب وغيرها في ص343 من: السيّد، د. محمود أحمد- في طرائق تدريس اللغة العربية- جامعة دمشق- دمشق 1982.‏
3-انظر تفصيلات هذه المهارات في ص24 وما بعد من: السكري، عبد الفتاح- المهارات الأساسية للقراءة- المجلة العربية للتربية- المجلد 6- ع2-1986.‏
4-انظر ص299 من: السيّد، د. محمود أحمد - في طرائق تدريس اللغة العربية- مرجع سبق ذكره.‏
5-للتفصيل انظر ص80 وما بعد من: الفيصل، سمر روحي- مشكلات قصص الأطفال في سورية- اتحاد الكتاب العرب- دمشق 1981.‏
6-انظر ص121 وما بعد من: الفيصل، سمر روحي- ثقافة الطفل العربي- اتحاد الكتاب العرب- دمشق 1987.‏
7-انظر ص129 من: المرجع السابق.‏
8-الجزء الرابع من الشوقيات لأحمد شوقي، و:العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ لعثمان جلال.‏
9-انظر ص51 من: أبو هيف، عبد الله- أدب الأطفال نظرياً وتطبيقياً.‏
10-انظر: ديوان كامل كيلاني للأطفال- إعداد: عبد التواب يوسف- الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة 1988.‏
11-انظر ص310 من: جعفر، د. عبد الرزاق- أدب الأطفال- اتحاد الكتاب العرب- دمشق 1979.‏
12-ترجم المجموعة إلى اللغة العربية وجيه توفيق جبر، وصدرت ضمن منشورات وزارة الثقافة بدمشق عام 1978.‏
13-ترجم المجموعة إلى اللغة العربية ميخائيل عيد، وصدرت ضمن منشورات وزارة الثقافة بدمشق عام 1978.‏
14-ترجم القصة إلى اللغة العربية بكر يوسف، وصدرت ضمن منشورات دار التقدّم بموسكو عام 19766.‏
15-ترجم القصة إلى اللغة العربية ماجد علاء الدين، وصدرت ضمن منشورات دار التقدّم بموسكو عام 1975.‏
16-ترجم المجموعة إلى اللغة العربية عيسى فتّوح، وصدرت ضمن منشورات وزارة الثقافة بدمشق عام 1978.‏
17-انظر القصة في المجموعة المسماة باسمها -ص9 وما بعد.‏
18-انظر القصة في مجموعة (الأرنب والتمساح)- ص29 وما بعد.‏
19-انظر القصة في مجموعة (الأرنب قصير الأذن)- ص17 وما بعد.‏
20-فكرة العالم الوهمي بفروعها مستمدّة من د. شاكر مصطفى، انظر تعقيبه على محاضرة (الطفل العربي ومشكلة الاغتراب الثقافي) للدكتور قاسم الصراف، ضمن كتاب: الطفولة في مجتمع عربي متغيّر- الجمعية الكويتية لتقدُّم الطفولة العربية- الكويت 1983.‏
21-انظر ص155 من: خرما، د. نايف- أضواء على الدراسات اللغوية المعاصرة- عالم المعرفة 9- الكويت 1978.‏
22-المرجع السابق- ص162.‏
23-المرجع السابق نفسه.‏
24-نقض اللغويون جوانب من هذه النظرية تتعلق برأي تشومسكي في أن الطفل يدرك وهو يكتسب اللغة قواعد تحويلية معقدة تمكّنه من بناء الجمل، ورأوا أن الطفل يبحث عن أنماط تتبع نظاماً متناسقاً في البنيات الخارجية للجمل.‏
25-للتفصيل انظر ص164 من: أضواء على الدراسات اللغوية المعاصرة.‏
26-أضواء على الدراسات اللغوية المعاصرة- د. نايف خرما- ص167. وتجدر الإشارة إلى أن فكرة تعلّم الكلمات المفردة والمبادئ مستمدة من المرجع نفسه.‏
27-المرجع السابق -ص161.‏
28-للتفصيل انظر ص103 من: الفيصل، سمر روحي- ثقافة الطفل العربي.‏
29-انظر ص28 وما بعد من: الرصيد اللغوي العربي- المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم- تونس 1989.‏
30-للتفصيل انظر ص171 من: السنعوسي، محمد- التلفزيون والأطفال- ضمن كتاب (الطفولة في مجتمع عربي متغيّر)- الجمعية الكويتية لتقدّم الطفولة العربية- الكتاب السنوي الأول- الكويت 1983-1984.‏
31-المرجع السابق نفسه.‏

المصدر
http://www.awu-dam.org/book/98/study...ok98-sd005.htm













التوقيع
تكون .. أو لا تكون .. هذا هو السؤال
  رد مع اقتباس