عرض مشاركة واحدة
قديم Feb-04-2007, 11:00 PM   المشاركة3
المعلومات

د.محمود قطر
مستشار المنتدى للمكتبات والمعلومات
أستاذ مساعد بجامعة الطائف
 
الصورة الرمزية د.محمود قطر

د.محمود قطر غير متواجد حالياً
البيانات
 
العضوية: 13450
تاريخ التسجيل: Oct 2005
الدولة: مصـــر
المشاركات: 4,379
بمعدل : 0.65 يومياً


افتراضي تأملات في تجربة أدب الأطفال في الوطن العربي

الفصل الثاني : تأملات في تجربة أدب الأطفال في الوطن العربي
1ـ أهداف غائمة ومخاطر جدية:‏
1ـ1ـ تحدي التبعية:‏
لا نبالغ إذا قلنا: ما يزال أدب الأطفال في الوطن العربي على هامش الأدب والتربية معاً، لأن تجربة مائة عام ونيف من الاشتغال غير المنتظم على هذا الأدب شاحبة وضعيفة لأسباب كثيرة، تتعلق بظروف نشأة أدب الأطفال عند العرب وتطوره وتكونه، وبوضعية العلوم الإنسانية على وجه العموم وعلم نفس الطفل على وجه الخصوص من جهة ثانية، وبالموقف القومي والتربوي والثقافي العربي من جهة ثالثة.‏
ولا نبالغ إذا قلنا: إن الاهتمام بأدب الأطفال في الوطن العربي قد دخل الحياة الثقافية العربية من باب التبعية الثقافية والإعلامية، حين طُرح أدب الأطفال بقوة من مراكز التبعية الغربية، وحين لاحظت النخب الثقافية والسياسية والتربوية العربية أن الغرب والشرق يعنى بمخاطبة الأطفال والناشئة العرب، فينتج لهم أدب الأطفال، وينقله إليهم بوسائط ثقافية متعددة، وعبر وسائل الاتصال بجماهير الأطفال التي تنوعت وزاد تأثيرها بما لم تستطع وسائل القياس أن تحيط به في ظل تردي البحث العربي في أدب الأطفال أيضاً.‏
وهكذا، برز الاهتمام العربي بأدب الأطفال من خلال أمرين أولهما: توجيه أدب الأطفال ضمن أهداف محددة لم يتفق حتى الآن على توصيفها ومحتواها القيمي والفكري والفني، وثانيهما: مواجهة مخاطر هذه الكتابة للأطفال والناشئة على أن الغلبة والتأثير الأوسع مايزال لمراكز التبعية التي تنتج أدب الأطفال لجمهوره من الأطفال والناشئة العرب، بمواصفات أفضل وتنوع أوضح، وسعر أقل، يتيح لهذه المنتجات الرواج والانتشار أكثر من المواد الأدبية العربية القليلة، نوعا وكماً.‏
غير أننا سنشخص الصورة أكثر، فنعرض بإيجاز للخلفية التاريخية لنشأة أدب الأطفال في الوطن العربي تمهيداً للقول في العوامل الأخرى التي أدت إلى إهمال هذا الأدب حتى وقت قريب.‏
1ـ2ـ إشارة تاريخية:‏
لدى البحث في الخلفية التاريخية لأدب الأطفال في الوطن العربي نلاحظ أنه نشأ في أحضان التربية، ملبياً لحاجات التأليف المدرسي، وأن طوابع نشأته ظلت مستمرة حتى مطلع السبعينيات، وإذا عزلنا صور الكتابة عن الأطفال في التراث العربي القديم، فإن أدب الأطفال بحد ذاته خطاباً موجهاً للأطفال مراعياً اعتبارات هذه المخاطبة، هو ابن العصر الحديث، عصر حقوق الإنسان في الحرية والعلم والديمقراطية والإنتاج والصحة والعيش، أي أن أدب الأطفال هو نتاج محاولات قرنين من الزمن منذ أواخر القرن الثامن عشر، بمفهومه الناجز والمتفق عليه لدى غالبة المهتمين به، من الأدباء والفنانين والمربين، فهو ابن القرن الأخير منذ أواخر القرن التاسع عشر، حين اكتشف علم النفس، ثم بلغ ذروة إبداعه في مطلع القرن العشرين، ولاسيما ثلاثينياته، مع اكتشاف علم نفس الطفل، لأن أدب الأطفال مرهون بوجود الطفل نفسه، وبالذات مرهون بمعرفة الطفل نفسه، حيث ارتهن، فيما بعد، أدب الأطفال يتطور علم نفس الطفل وعلم اجتماع الطفل(1).‏
إن المعول في أدب الأطفال هو مراعاة اعتبارات مخاطبة الأطفال، أي أن معرفة طبيعة أدب الأطفال تخضع لمعرفة الطفل نفسياً واجتماعياً، ومن هنا بدأت تظهر ملامح خاصة لنظرية أدب الأطفال تميزها عن نظرية الأدب أو أدب الراشدين، وليست هذه الملامح الخاصة موغلة في التراث الأدبي الحديث، لأنها تجليات القوانين الخاصة بمخاطبة الأطفال في فنونهم كالشعر والقصة والمسرحية، وفي وسائطهم كالكتاب والإذاعتين المرئية والمسموعة والخيالة (السينما) والمسرح والصحافة وسوى ذلك.‏
لقد صار الحديث عن نظرية أدب الأطفال ممكناً في العقود الثلاثة الأخيرة وحدها، نحو ضبط السياق الأدبي على السياق التربوي، وغني عن القول بعد ذلك: أن أنساق تنضيد أدب الأطفال محكومة بتراتب المحتوى القيمي والتربوي داخل سياق النص الأدبي، وليس من الميسور أن نعاين عناصر أنساق تنضيد أدب الأطفال في مثل هذه العجالة، ولكننا نكتفي بالإشارة إليها، فثمة أسئلة لابد من الإجابة عنها في الكتابة للأطفال تنطلق من المعايير والاعتبارات التربوية كالنمو واللغة والخيال والتوجيه والتلقي (الجمهور) لتصب في المعايير والاعتبارات الفنية، وقد حسبت حساباً للتربية، كالتقنية والجنس الأدبي والوسيط الثقافي أو وسيلة الاتصال، فعلى سبيل المثال، تختلف قصة الأطفال عن قصة الراشدين، ونلمس مظاهر الاختلاف في المستوى الصرفي والإدراكي واللغوي والتخيلي والتوجيهي ومستوى قابليات التأثير، وهي مظاهر تنعكس بشكل أو بآخر على الشروط التقنية وخصائص الجنس الأدبي وطبيعة الوسيط الثقافي أو طبيعة الاتصال الإعلامي، فالقصة الطفلية متميزة بالمستويات التي أشرنا إليها، ثم هي نفسها تخلتف من شكلٍ إلى آخر في هذا الوسيط أو ذاك.‏
وتؤدي معاينة عناصر أنساق تنضيد أدب الأطفال إلى تحقيق المعادلة الصعبة التي لابد منها بين التربية والفن، فلا ينبغي أن يكون أدب الأطفال مجالاً للدعاوة والخطاب الرخيص ومباشرة التسلية، أو مجالاً للوعظ والتبشير ومباشرة القيم(2).‏
ومن الملاحظ، أن أدب الأطفال في الوطن العربي قد تكون بتأثير عوامل رئيسة نذكر منها:‏
أولاً: انتشار التعليم عن طريق المدارس.‏
وثانياً: المثاقفة عن طريق الترجمة والاقتباس والصحافة والاتصال بالغرب.‏
وثالثاً: بروز الطفل كائناً يليق بالمخاطبة عن طريق ظهور علم نفس الطفل بالدرجة الأولى.‏
وثمة أمر طريف، هو أن رواد أدب الأطفال العرب قد عادوا إلى تراثهم العربي القصصي والحكائي عن طريق المثاقفة إياها ترجمة واقتباساً عن محاولات غربية سابقاً، ولم يستعيدوا هذا التراث مباشرة من مصنفاته ومخطوطاته إلا متأخرين في العقود الثلاثة الأخيرة. لقد ظل أدب الأطفال العربي حتى منتصف القرن العشرين مزيجاً غير واضح المعالم من المؤثرات الأجنبية والمكونات التراثية، بل أن المؤثرات الأجنبية هي أكثر دوراناً على محاولات التعريب والترجمة والاقتباس والإعداد. أما التأليف فلم تظهر نماذجه الأصيلة إلا في الخمسينيات وما تلاها من عقود، (ولنذكر في هذا المجال إنجاز رائد كبير مثل كامل كيلاني الذي مازالت كتبه ومجموعاته للأطفال يعاد طبعها حتى يومنا هذا)(3).‏
وتشهد عقود الستينيات والسبعينيات على أن سمات أدب الأطفال في التراث العربي الحديث مازالت مستمرة كالمؤثرات الأجنبية ومثالها التعريب أو الاقتباس أو الإعداد أو النقل. ولا ننسى في هذا المجال مطبوعات «دار المعارف بمصر»، وهي مطبوعات رائجة ومنتشرة في أرجاء الوطن العربي، ونذكر من هذه السمات: غياب العناية باللغة إلا في محاولات نادرة فلا مراعاة للقاموس المشترك على سبيل المثال، وغلبة التعامل نفسه مع المضامين والمحتوى القيمي كهيمنة التعليم والوعظ، ومحدودية الأساليب التعبيرية نفسها كالأنسنة وتبسيط التاريخ إلى حد التسطيح، وإعادة التراث دون استعادته بل نقله عن مصادر أجنبية، ومعاملة الطفل راشداً وما تلحقه من أضرار في مخاطبة الأطفال والناشئة.‏
ويستفاد من هذه الإشارات حول الخلفية التاريخية أن العقبات والصعوبات التي رافقت نشأة أدب الأطفال العربي مستمرة، في ذلك المزيج من المؤثرات والمكونات، وماتزال جهود تأصيل أدب الأطفال العربي، من تقاليده، وباتجاه جماهير الأطفال والناشئة العرب، فقيرة.‏
1ـ3ـ الموقف من أدب الأطفال:‏
لقد اكتشف المعنيون العرب بأدب الأطفال متأخرين المخاطر الجدية لهذا الأدب في ظل غياب، لاشك فيه، للاهتمام العربي اللائق، وقد كانت المبادرة من مؤتمرات الأدباء والكتاب العرب التي دأبت على بحث أدب الأطفال منذ منتصف السبعينيات، كما لاحظنا في الفصل السابق، (المؤتمر العاشر بالجزائر1975م)، أما مؤتمرات وزراء الثقافة العرب فقد خصص مؤتمر القاهرة (حزيران 1991م) لموضوع ثقافة الطفل العربي، ولم يدرج أدب الأطفال بعد على مؤتمرات وزراء التربية العرب(4).‏
وكانت مبادرة الأدباء والكتاب العرب في الالتفات إلى أدب الأطفال في إطار وعي المثقفين العرب لمخاطر الغزو الثقافي والتبعية الثقافية التي وجدت في أدب الأطفال ميدانها الواسع، فعني الأدباء والكتاب العرب بأدب الأطفال العربي وتطويره والنهوض به مقاومة لعمليات احتلال عقل الطفل العربي.‏
غير أن الصراع قائم، ويتطلب جهداً عربياً شاملاً يستند إلى تكامل ثقافي صريح يتصدى لمحاولات التبعية الثقافية، ويواجه، فيما يواجهه، عوامل تأخر نهوض أدب الأطفال العربي، لأننا نلمس، حتى اليوم، مظاهر إهمال أدب الأطفال العربي وتهميشه، والتخلي عنه للمتاجرين به، وتتبدى هذه المظاهر في المواقف التالية:‏
أ- الموقف العربي، فيما يزال أدب الأطفال خارج استراتيجية العمل الثقافي العربي المشترك، مما يشير إلى ضعف إدراك أهمية أدب الأطفال في التكوين الإنساني، وفي مواجهة التحديات المصيرية في الوقت نفسه، وإلى إهمال التخطيط الثقافي القومي في مجالات أدب الأطفال المختلفة ووسائطه المتعددة.‏
ب - الموقف التربوي، فأدب الأطفال خارج استراتيجية التربية العربية سواء في المناهج أو في المناشط الكثيرة.‏
جـ - الموقف الثقافي، فثمة نظرة أدنى إلى أدب الأطفال قياساً إلى أنواع الإبداع الأخرى.‏
د- الموقف الفني، حيث تنتشر الأمية والأمية الثقافية، وحيث تخضع عمليات إنتاج أدب الأطفال وإعادة إنتاجه لاستسهال الرواج والمتاجرة مما يخفض القيمة الفنية، ويسطّح الممارسة الأدبية.‏
لقد قلنا الكثير عن الضرورة الوطنية والقومية لأدب الأطفال، فقد أغفلت أهمية أدب الأطفال في الوطن العربي طويلاً، ومازال الكثيرون من رجال العلم والأدب والفن والتربية بعيدين عن تقدير مكانه أدب التربوية والأخلاقية والقومية، ومازال الكثيرون منهم ممن يترفعون عن مخاطبة الناشئة في أدب يساعد على نماء جماهير الأطفال الواسعة، بما تمليه اعتبارات هذه المخاطبة التربوية والفنية، بل أن كثيرين يرون ضيراً في ممارسة هذا الخطاب.‏
وإذا كنا نلحظ اهتماماً بأدب الأطفال في بعض الأقطار العربية، ومنها سورية ومصر، وفي بعض أجناسه، في الكتابة له وعنه، فإن الحاجة لهذا الأدب ضرورة تستدعيها إرادة بناء الإنسان العربي بالدرجة الأولى، ناهيك عن الوظائف الكبرى التي يضطلع بها أدب الأطفال في عمليات التنمية الثقافية والاجتماعية والسياسية.‏
إن ثمة تحديات تواجه الثقافة العربية على وجه العموم، والتربية العربية منها على وجه الخصوص، إزاء تطوير أدب الأطفال، وانتشاره إلى ملايين الأطفال الذين هم أحوج ما يكونون إليه في ظروف التحول الاجتماعي الخطيرة التي تشهدها المنطقة العربية، ولعل من أولى الصعوبات ذلك التغير الهائل في وسائط الاتصال الحديثة، إذ تبدلت كثيراً وسائط الثقافة، وتنوعت تقنيات مخاطبة الأطفال وازدادت تشابكاً وتعقيداً، وتراجع أو كاد أن يمحو، الدور التقليدي للأسرة ولاسيما الجدة والأم والمدرسة والتجمعات واللقاءات الشعبية الشفهية والعفوية، وحلت محلها وسائل الاتصال الحديثة والتقنيات المتطورة الهائلة في نقل الأدب إلى الأطفال. وليست هذه الحساسية المتفاقمة مما يعاني منه رجل الثقافة والتربية العرب فحسب، بل هي وعي حاد بالمآل المسدود لمدرسة شاملة وتربية تكوينية متفتحة، تواجه العقبات في هذا المسار أو ذاك. فقد أجمع أدباء الأطفال في العالم على خطورة وضع الأطفال في عالمنا الراهن والمخاطر التي تقف في وجه أدب الأطفال الجيد، وأبدوا قلقهم المتزايد حيال المصائر التربوية والتنموية لأدب الأطفال، وتتوالى اعترافات هؤلاء الأدباء ورجل التربية في أكثر من مكان من المعمورة، داعية إلى الدفاع عن الأطفال ضد الأدب الرديء، وعلى وجه الخصوص ما ينشر منه عبر وسائل الاتصال الجماهيرية، وطالبوا برفع القيود عن حرية إبداعه وانتشاره: القيم الإنسانية أولاً، تربية الأطفال في الحياة اليومية ليكونوا قادرين على النمو السليم ومواجهة الأخطار في أوطانهم.‏
لقد صار مطلوباً السعي لأن تقوم، ولو بشكل محدود، وسائل الاتصال الحديثة ووسائط الثقافة وأجهزتها الكثيرة، مقام الجدات والأمهات في حكاياتهن وأغانيهن وغنى الأدب التربوي الشفاهي الذي يتلقاه الأطفال بلهفة وشوق، فتكبر معهم قوة الكلمات، وينعمون بثراء الوجدان وسمو النفس.‏
1ـ4ـ طوابع أدب الأطفال:‏
إن أدب الأطفال ضرورة وطنية وقومية وشرط لازم من شروط التنمية الثقافية المنشودة في عقدها الدولي الذي انقضى دون فائدة كبيرة، بل أن تنمية ثقافية تتجاهل أدب الأطفال أو تهمله، ناقصة، وتفتقر لجذورها، لأسباب تتعلق بطبيعة التكوين المعرفي والتربوي للإنسان. وغني عن القول، أن أدب الأطفال سبيل لا غنى عنه لتسريع عملية التنمية الثقافية والاجتماعية مما يتطلب بذل المزيد من الجهد لتأصيل أدب الأطفال وتدعيمه في التربية والمجتمع في مختلف المؤسسات، ولا تتوقف هذه الجهود عند نشر كتاب أو بث برنامج إذاعي، أو عقد أمسية أدبية، على أهمية مثل هذه النشاطات، بل تحتاج إلى تخطيط قومي شامل، في صلب التخطيط القومي للثقافة العربية، يراعي خصوصيات أدب الأطفال، وينهض بمسؤوليته على أنه ادخار مضمون في كسب معركة الحياة العربية.‏
ولهذا كله، نجد في أدب الأطفال سبيلاً أمثل لبناء الذات، مكوناً.رئيساً للشخصية القومية، وتتبدى قابليات أدب الأطفال لأداء فاعليته فيما يلي:‏
1ـ4ـ1ـ الطابع التربوي لأدب الأطفال، فلا ينكر أحد اليوم عظم الأدوار التربوية التي يؤديها أدب الأطفال، بل أن أدب الأطفال تربوي بالدرجة الأولى، بمعنى أن الاعتبارات التربوية هي الأساس المكين لإنتاج أدب الأطفال أو إعادة إنتاجه في الوسائط الثقافية الكثيرة والمتنوعة، ولاسيما اعتبارات النمو واللغة والخلد والبيئة والمجتمع.‏
1ـ4ـ2ـ الطابع القومي لأدب الأطفال، فأدب الأطفال هو أكثر المبدعات الفنية والأدبية تعبيراً عن الذات القومية واستمرار التقاليد الثقافية، والحفاظ على الأصالة بما هي الهوية. ولا يخفى أن سيرورة الثقافة العربية رسخت عبر تاريخها الطويل مصادر صرفية وإبداعية ثرة لتجربة أدب الأطفال في الشعر التعليمي وقصص الحيوان والقصص اللغوي وأساليب النثر القصصي الأخرى كالأخبار والنوادر والطرائف والسير الشعبية. وهذا كله، يثري إبداع أدب الأطفال العربي وينميه.‏
1ـ4ـ3ـ الطابع الشعبي لأدب الأطفال، لأن أدب الأطفال هو أكثر المبدعات الفنية والأدبية استلهاماً للتراث الشعبي والمأثورات الشعبية، فهو داعم للبحث في الهوية القومية، ومسعف الذاكرة بخصائصها الباقية، ومجدد وسائل التعبير في مخاطبة الأطفال بما هو أقرب إلى وجدانهم، وألصق بالأنظمة الصرفية والتربوية في مناخهم ومحيطهم.‏
1ـ4ـ4ـ الطابع الإيديولوجي لأدب الأطفال، فقد دخل أدب الأطفال ميادين الصراع الفكري منذ وقت ليس بقصير، ويعد أدب الأطفال اليوم أخطر مجال للتبعية الثقافية والإعلامية، إذ يستخدمه الاستعمار لغزوه الثقافي والإعلامي، ويتلقى الطفل العربي المنتوجات الأدبية والفنية الغزيرة، وفي شتى الفنون والوسائط بقصد التأثر على تكوين الناشئة، والترويج للنمط الثقافي التابع(5).‏
1ـ5ـ تطوير أدب الأطفال:‏
إننا نرى في أدب الأطفال جنساً أدبياً وإبداعاً وخطاباً ثقافياً متعاظم الفاعلية في الطفل العربي، ضمانة المستقبل العربي. وإننا إذ نخص أدب الأطفال بهذه العناية، فإننا ننهض بمسؤولياتنا، ونراها مهمات متنامية في الدفاع عن ثقافة الطفل العربي، وفي تأصيل أدب الأطفال، ومعنى انتشاره وإعادة إنتاجه وعياً يقوم بالدرجة الأولى على فهمه تاريخياً وثقافياً وسياسياً وتربوياً وأدبياً، ورؤيته الواقعية في خضم مشكلات النهوض الثقافي والتربوي العربي. وهذا يستدعي الوعي بأدب الأطفال إزاء المخاطر الجدية التي تتهدده، ويرتهن ذلك برعاية أدب الأطفال وتقديم العون اللازم له في الاتجاهات التالية:‏
أولاً: إدماج أدب الأطفال في العمل الثقافي العربي، وفي الخطة القومية الشاملة، تخطيطاً ينتظم في تدابير قابلة للتطبيق.‏
ثانياً: إدماج أدب الأطفال في استراتيجية التربية العربية من خلال تجذير الأبعاد التربوية لأدب الأطفال في التنشئة القومية، ومن خلال التكامل التربوي في إطار الوحدة والتنوع.‏
ثالثاً: تطوير الكتابة للأطفال في أجناسه، وعبر وسائطه.‏
ولعل التخطيط الثقافي والثقافي القومي الشامل هو المدخل للعون اللازم للنهوض بأدب الأطفال العربي ، في بحوث أدب الأطفال، وتعليمه والتأليف له وإنتاجه وإعادة إنتاجه في الكتاب والصحافة والخيالة والإذاعتين المرئية والمسموعة والمسرح وسوى ذلك من وسائط، ويتطلب ذلك قيام هيئة عربية ترعاها وتوجهها وتمولها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ولها مركز أو أكثر حسب الاختصاص (مركز بحوث أدب الأطفال، معهد إعداد للعاملين في أدب الأطفال، كلية جامعية لتدريس أدب الأطفال، مركز التراث الشعبي للأطفال، مركز برامج الأطفال الإذاعية، مؤسسة خيالة الأطفال، مركز كتاب الطفل، دار قومية لصحافة الأطفال... الخ).‏
2ـ أدب الأطفال.. موضة أم حاجة؟‏
2ـ1ـ «سدرة» وذكرى «العربي الصغير»:‏
حسناً فعلت حكومة الكويت بعزمها على إصدار مجلة جديدة للطفل العربي سمتها «سدرة» تيمناً بتلك الشجرة الكريمة، وبكل نبت كريم على الأرض العربية. وحسناً، فعلت حكومة الكويت بانتهاجها مخاطبة الطفل الربي من منظور عربي واضح، فقد قالت الدكتورة كافية رمضان رئيسة التحرير، في اجتماعها مع كتاب وفناني الطفل في سورية في إطار التحضير لإصدارها «إنها مجلة عربية التوجه، وهي للكويت بقدر ما هي للعرب جميعاً».‏
وقد كان ذلك اللقاء بهيجاً مثلما أثار فينا الشجن جميعاً نحن المعنيين بثقافة الطفل العربي، فثمة كثرة كثيرة من المجلات التي تتوجه إلى الطفل العربي، ولكن أقلها هو الذي يعنى بالتخطيط الثقافي العربي القيمي الذي لابد منه لتثمير إرادة بناء وجدان الطفل العربي.‏
كانت الخطوة الأولى لمجلة «سدرة» سليمة، فقد صدر العدد التجريبي «صفر» ليكون الأرضية لحوار خصيب يقوم التجربة، ويرسم آفاقاً لأوسع تعاون يستجيب لذلك النداء الحي العميق: إصدار مجلة للطفل العربي.‏
عندما دخلت إلى قاعة الاجتماع، كانت مجلة «العربي الصغير» التي أصدرتها حكومة الكويت وترأس تحريرها الدكتور محمد الرميحي آنذاك حاضرة في ذاكرتنا نموذجاً قارب النجاح، وحقق إنجازات واضحة في الاستجابة لهذا التطلع المقيم: مجلة للطفل العربي.‏
ولعل أهم ما حققته «العربي الصغير» في فترتها القصيرة، بالإضافة إلى اجتذابها لأهم أدباء الطفل في الوطن العربي، وربما السبب وغيره:‏
1ـ التوازن القيمي في المحتوى (القومي، الديني، الإنساني، الصرفي...الخ) من خلال تخطيط مسبق لا يخفى.‏
2ـ مراعاة الاعتبارات التربوية في مخاطبة الأطفال، إذ خصت المجلة عمراً معيناً، نجحت في تقديم المادة الثقافية المناسبة له، ثم خصت عمراً أصغر بنصف ملزمة داخل كل عدد.‏
3ـ الابتعاد عن الدعاوة والتبشير المباشر.‏
4ـ الاهتمام بأدب الأطفال العربي من جهة، والعالمي من جهة أخرى (روايات، سلسلة أو ملخصة قصص، قصائد، روائع أدب الأطفال العالمي من مسرحيات وروايات وسواها).‏
5ـ الاهتمام بتقديم التراث العربي للأطفال (أمهات الكتب) تعريفاً وتلخيصاً وتبسيطاً.. الخ.‏
ولدى اطلاعنا على العدد التجريبي صفر من مجلة «سدرة» أملنا على هيئة تحريرها ووزارة الإعلام التي تصدرها أن تكمل مسيرة «العربي الصغير»، وأن تعزز اتجاهاتها وأساليب خطابيها للطفل العربي، وتضيف إليها الاهتمام بتربية الابتكار والعمل والمهارات والخبرات العملية والعلمية واليدوية، وربطه بمبدأ التربية الحياتية، وتنمية اتجاهات التواصل بجماعات الأطفال من النوادي داخل المجلة مثل نادي المراسلين ونادي أصدقاء الطبيعة والبيئة، ونادي أصدقاء اللغة العربية، ونادي الأدباء الصغار، ونادي هواة الجغرافية..الخ، وأن تتناوب هذه الأبواب ـ النوادي الظهور لتكوين حركة أطفال ناشطة في وعيها وتكوينها.‏
لقد كانت «العربي الصغير»، وماتزال بتقديري، أهم قنوات الاتصال بجماهير الأطفال العرب، ومن المأمول أن تتابع «سدرة» مسيرتها الرائدة إسهاماً في الإجابة عن أسئلة ثقافة الطفل العربي، وهي أسئلة مؤرقة ضاغطة على الوجدان القومي والوطني النبيل، من أجل ثقافة عربية لطفلنا العربي في خضم المشكلات التي يعاني منها العمل العربي المشترك، وتعاني منها ثقافتنا العربية، وأولها ذلك الإهمال المتعمد لهذا الأدب الماتع المفيد الذي لابد منه لكل تنشئة منشودة.‏
وغني عن القول، إن بداءة الاهتمام العربي الجدي بأدب الأطفال كانت مع العام الدولي للطفل عام 1979م، حين هبت موجة قوية في بحر الثقافة العربية العاصف اسمها «أدب الأطفال»، غير أن واقع الحال ما لبث أن آنس انشغاله بقضاياه المعتادة مع منتصف الثمانينيات، ومن أسف، ان «أدب الأطفال» لم يكن بين هذه القضايا. وخلال هذه الفترة، أعني مطلع الثمانينيات، شهدنا صدور مجلات كثيرة موجهة للطفل العربي، كتب ومطبوعات وسلاسل متعددة، لا تختلف كثيراً عن ذلك الفيض التجاري الهائل، المترجم أو المعد للطفل العربي في دوائر غير عربية، والمنتشر في الأسواق العربية منذ أواخر الستينيات، وكان دخل أدب الأطفال بقوة ميدان الصراع الإيديولوجي وصراع الأفكار منذ ذلك الحين.‏
مثلما شهدنا برامج إذاعية وأشرطة سينمائية ومتلفزة، فغصت البيوت بصور وأصوات أبطال وأشخاص الرسوم المتحركة الذين يتكلمون العربية في بيئات غير عربية، ولا ينتجون سوى قيم المغامرة الخارقة والمجتمع الاستهلاكي والانفصام عن الواقع، وتكريس الاتجاهات غير الإنسانية أو العلمية، ولنتذكر مثالاً واحداً في هذا المجال هو «غراندايزر»، فثمة عشرات الأطفال في سورية الذين رموا أنفسهم من سطح أو نافذة وتكسرت أعضاؤهم، وهم ينفعلون مع بطلهم الأسطوري، ويقلدون حركاته العجيبة.‏
أما في الجانب الآخر الرسمي، جانب الثقافة العربية الرفيعة، فقد رصدت في الفصل السابق «أدب الأطفال في مؤتمرات الأدباء العرب»، وكانت النتائج مخيبة للآمال، وإن كانت دافعة للأمل في بعث الاهتمام بأدب الأطفال:‏
1ـ أن ثمة تداخلات بين مفهوم الأدب للأطفال، والأدب عن الأطفال، وقد كان المؤتمر الثاني عشر انعطافة هامة في معالجة موضوع أدب الأطفال والإجابة على بعض أسئلته القومية والتربوية والتثقيفية.‏
2ـ ماتزال رؤية الكاتب العربي لأدب الأطفال في إطاره العام، ولم تقترب ـ كما ينبغي ـ من خصائص أدب الأطفال وتحديد نظريته في الإبداع أو الإنتاج أو إعادة الإنتاج في وسائطه إلى الأطفال.‏
3ـ عكست بحوث المؤتمرات ومناقشاتها وتوصياتها جدة أدب الأطفال في الحياة الثقافية العربية وأبرزت حاجة هذا الأدب القصوى إلى العون والتخطيط والعمل القومي المشترك باعتباره في صلب العملية التربوية وبناء الإنسان العربي.‏
والنتيجة هي أن أدب الأطفال لم يترسخ بعد في تقاليد العمل الثقافي أو التربوي القومي والوطني. وأما الصعوبات التي يواجهها فهي أكثر من أن تعد، سواء في وعي نظريته أو تيسير انتشاره بين أوسع جماهير الأطفال. إن ثمة خطوات قد تحققت في هذا القطر العربي أو ذاك غير أنني سأتحدث عن المعضلة الأساسية التي تواجه تطور أدب الأطفال في الوطن العربي، وما يتصل بها من قضية التبعية من جهة، وتثمير الهوية القومية إزاء ذلك من جهة أخرى.‏
2ـ2ـ تبعات ثقيلة على أدب الأطفال:‏
أذكر أنني كنت في موسكو عام1979 ضمن حشد كبير من أدباء الأطفال من قارات الأرض كلها. كان ذلك في عز الاتحاد السوفييتي وفي زهو ارتفاع الصوت بقوة الإيديولوجية وتشكيلها للنشاطات الإنسانية كلها حتى الشخصية منها، فكيف بالمجالات المعرفية ومنها هذا الأدب الجديد ـ النامي: أدب الأطفال؟ كانت بداءة اهتمام سوفييتي بتوجيه مبدعات هذا الأدب، ولكن الثمانينيات لم تسعف بذلك فتغير العالم، وتلاشت معه تلك المحاولة لقوننة أدب الأطفال.‏
كان ذلك في حينه يستجيب لأصوات عالمية تجسدت في اعتبار عام 1979م عاماً دولياً للطفل. ومن المؤسف أن هذه الأصوات العالمية، وجلها من ذوي الإرادة الطيبة، قد شحبت وغابت في غابة الصراع الدولي على المصالح والسياسات والمنازعات الدولية الصغيرة والكبيرة، فعاد الاهتمام إلى حجمه من خلال أصوات المسؤولية الأخلاقية والاجتماعية في عصرنا الداعية إلى رعاية الطفولة من أجل مستقبل الإنسان. ثم ماذا تفعل هذه الأصوات وحدها. كان عدد الأدباء والمشاركين في المؤتمر أكثر من مائة وثلاثين كاتباً من تسع وثلاثين بلداً، واجتمعوا في المؤتمر العالمي الثاني لأدب الأطفال الذي انعقد تحت شعار: «شباب العالم وأدب الأطفال» فيما بين 15 و24 تشرين الأول 1979م.‏
وكانت المناسبة شروعاً في فورة أدب الأطفال التي تأججت مع العام الدولي للطفل، وكانت الحكومات والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية تتسابق للحديث عن أدب الأطفال وقد داهمت هذه الفورة الدول العربية أيضاً التي حاولت أن تنغمر بالحديث على ضعف تجربتها وقلة حيلتها، إذ مايزال أدب الأطفال حتى اليوم خارج استراتيجية التربية العربية، ولا يلقى العون اللازم في خطط وزارات التربية والشؤون الثقافية العربية، ناهيك عن ظهوره الشاحب في الخطة الثقافية القومية الشاملة. وقد ألقيت آنذاك كلمة نددت فيها بالتبعات الثقيلة التي نحملها لأدب الأطفال العربي، فيصير في ظل هذه التبعات إلى أدب تعليمي مباشر، مثلما دعوت إلى تخليص أدب الأطفال من وطأة الإيديولوجيات ونزوعاتها البشرية الدعاوية الضارة. لأن أدب الأطفال ينهض على المنظومة القيمية الإنسانية والقومية والأخلاقية والمعرفية.‏
وبعد قرابة عقدين ونيف من الزمن على هذا المؤتمر مايزال أدب الأطفال والناشئة يعاني من التبعات إياها: ألا يكون أدب رديئاً، وأن يواجه الأدب الرديء، فقد تحولت مداولات المؤتمر إلى دفاع عن الأطفال ضد الأدب الرديء، وبخاصة ما ينشر عنه عبر وسائل الاتصال بالجماهير، أو القيود التي تعوق أدب الأطفال عن حرية إبداعه، وعن حرية إنتاج أو إعادة إنتاج أدب أطفال جيد.‏
أذكر أن ذلك المؤتمر الطيب الذكر كان في منتهى الأهمية، فقد تحدث فيه كل كاتب، في كلمة قصيرة أو طويلة عن شجون أدب الأطفال في بلادهم وفي العالم. وعلى الرغم من صدور نداء من المشتركين في المؤتمر إلى المعنيين بتربية الأطفال والناشئة وتثقيفهم في العالم، فإن كل كلمة ألقيت فيه تعد نداء عامراً بمسؤولية الكاتب عن قضية الأطفال والناشئة، فكان المؤتمر، بتقديري، فضاء مشتركاً لصوت الحرية القوي إزاء المخاطر التي تتهدد أوضاع أدب الأطفال والناشئة.‏
كان هناك تركيز واضح على مسألة أولى، هي القيم الإنسانية، فليس هناك قيم محايدة، والمهم هو تربية الأطفال في الحياة اليومية المعاصرة ليكونوا قادرين على النمو السليم ومواجهة الأخطار.‏
لقد نجح المؤتمر إلى حد ما، بعيداً عن الشعارات وأوهام الإيديولوجيا، في أن يكون نداء متقداً للضمير البشري للعمل من أجل السلام والحرية والديمقراطية، ومن أجل التقدم الاجتماعي وتعاظم المسؤولية الأخلاقية إزاء الناشئة لدى كل رجل وامرأة شريفين.‏
وقد أكدت، مثل كثيرين، على أوضاع الأطفال التي تؤثر، بالأساس، على إنتاج أدب أطفال جيد، لأن التقدم، كما هو الحال، في أدب الأطفال يعني انشغال هذا الأدب بشروط إنتاجه، وهذا المناخ مايزال مرهوناً بالظرف التاريخي الذي تعيشه بلادنا. وعلى الرغم من ظروف معيشة الأطفال السيئة في عشرات البلدان، فإن القائمين على شؤون التربية والتعليم والثقافة والإعلام يصرفون، غالباً، جهودهم عن حماية الطفل من الأدب الضار والسيء. قال الأديب الهندي الكبير راميش كوشيك:‏
«يتحمل الكتاب مسؤولية ثقيلة، فالكاتب هو من يجب عليه جعل الناس يعتقدون بأن بني البشر كافة هم من الأصل نفسه، وأنه لم يكن هناك تمييز بين غني وفقير، أو في المعتقد والدين عندما ظهر‏
الإنسان على وجه الأرض للمرة الأولى. وإنها لحقيقة جلية أنه من الأسهل أن تشذب غرسة عن أن تشذب شجرة، فالأطفال يتشربون القيم الإنسانية على نحو أسهل من البالغين».‏
وفي الاتجاه نفسه، تحدث ملياً الكاتب الياباني المعروف شيكو واتانابي عن الأخطار التي تهدد الطفل وأدبه: «إن الأطفال الذين فقدوا عادة الخلق غير قادرين على إدراك معنى الحياة الإنسانية في الوقت الراهن. لأن التلفاز في اليابان محل الأم والأب والجدة بالنسبة للطفل. لقد تربينا على حكايا الجنيات التي كانت تقصها علينا أمهاتنا وجداتنا، وقد رسمت فينا قوة الكلمة صوراً سحرية. حتى الآن، وقد أصبحنا بالغين راشدين، ومايزال التصور الخلاق معنا، ويساعدنا هذا التصور، ليس على رؤية حروف تطبع في الكتب فحسب. إنه يوقظ أفكارنا ومشاعرنا، وبفضله نتمكن من سماع الأصوات الإنسانية الحية. وهكذا، يسرق التلفاز الطفل، ويحرمه من قدرته على الحلم. أنني أستطيع الاستشهاد بأمثلة لا تحصى عن الأخطار التي تهدد الطفل عندما يكف عن سماع الكلمة وإدراكها بشكل حسي».‏
إن المسؤولية الراهنة أمامنا جميعاً هي تخليص أدب الأطفال من تبعاته الثقيلة: وأولها إبعاده عن مباشرة الإيديولوجيا، وثانيها الحد من عدوان وسائل الاتصال على أدب الأطفال.‏
2ـ3ـ احتلال عقل الطفل العربي:‏
لا نبالغ إذا قلنا أن اهتمام الدوائر غير العربية بمخاطبة الأطفال والفتيان العرب أكثر وأوسع وأعمق تأثيراً بما لا يقاس من الدوائر العربية، وكذلك ثقافة وإعلام ومؤسسات رسمية وتنظيمات شعبية وأهلية، ويبدو اهتمام هذه الدوائر غير العربية وكان تثقيف الأطفال والفتيان العرب وتكوينهم الإنساني والمعرفي يعنيها أكثر من أهلهم، فقد وجدت نتيجة مروّعة لدى دراستي للقصص والروايات والحكايات المقدمة للأطفال والفتيان العرب أن سبة المؤلف بأقلام عربية من مجموع النتاج القصصي والروائي لا يساوي 12%، وأن نسبة المعد والمقتبس تتجاوز الـ55%، والبقية هي قصص وروايات وحكايات مترجمة، ووجدت نتيجة مروّعة أخرى هي أن جهد هذه الدوائر العربية في تقديم هذا النتاج لا يصل إلى نسبة 16% (كماً ونوعاً، أي كمية المطبوع وتعدد عناوينه وتنوعها)، بينما تضطلع دوائر غير عربية بتقديم نسبة تفوق الـ84% (متعاونة مع تجار عرب وكتاب ومترجمين وفنيين عرب أو مؤسسات عربية تجارية أو هي تصدرها إلى الأسواق العربية عن طريق موزعين عرب)، فالاتحاد السوفييتي حتى سقوطه عام 1991 يحتل نسبة 37% من مجموع هذا النتاج، وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا والصين إبان تلك الفترة الطويلة التي رافقها تبشير عقائدي لا يخفى 13% وهذا كله جهد أقل بكثير من جهود بعض الدول الأخرى في تعاونها مع دور نشر عربية كفرنسا (في بيروت)، والولايات المتحدة (في القاهرة وبيروت) والمملكة المتحدة (في بيروت)، وهكذا فإن حرص هذه الدول على مخاطبة الأطفال والفتيان العرب غير مفهوم لأول وهلة بعيداً عن غابات الاستعلاء الثقافي والتبعية الثقافية والغزو الثقافي، بينما لا تقدم لهم الدوائر العربية إلا القليل مما يحتاج إليه بناء وجدانهم وتعزيز انتمائهم الوطني والقومي وتعضيد منظومة القيم الشعبية والإنسانية لديهم.‏
ثم زاد على هذه الدول جهد دول أخرى مثل الباكستان (مطبوعات تاج كمبني ليمتد كراتشي باللغة العربية للأطفال والفتيان العرب) وإيران هونغ كونغ واليونان، وكلها تجهد لطباعة الكتب التي تخاطب الأطفال والفتيان العرب، من منظورات تربوية وفكرية قد لا نرضى عنها، أو لا تتوافق مع مسعى الاستراتيجية التربوية والقومية العربية.‏
ويبدو من جهة أخرى مشروع سلسلة «ليد بيرد» مثالاً لدعم الغرب الاستعماري الذي يريد الهيمنة على عقل الأطفال والفتيان العرب، فقد انطلقت السلسلة مع مطلع السبعينيات، وطبعت أكثر من ألفي عنوان لمختلف أعمار الأطفال والفتيان في عشرات السلاسل القصصية والشعرية والحكائية والروائية والعلمية والمعرفية والتعليمية، وأغرقت السوق العربية بمئات ألوف النسخ المطبوعة بأناقة فاخرة والمدعومة من ناشرين هما ليديبيرد بوك ليمتد (لافبور) ولونغمان (مارلو)، وأقول مدعومة لأنها تباع بأقل من تكلفتها بكثير. ومن اللافت للنظر أن هذه المنشورات كسبت تعاون عدد كبير من الأدباء والكتاب العرب الذين وظفت إبداعاتهم ضمن سياساتها الثقافية مما يندرج تحت لواء الالتزام التقني أي الأديب أو الكاتب الذي يبيع إبداعه وجهده فتروجه الدار الناشرة وفق مقاييسها ومعاييرها، وغالباً ما تتحكم بطرائق توجيه هذا النتاج أو إعادة إنتاجه سلفاً مع الأدباء والكتاب أنفسهم ما داموا سيبيعون هذا الجهد تغذية لحاجات المركز الداعم لحاجات الطلب والسوق، وتأتي القيم والاعتبارات في النهاية.‏
هل علينا أن نؤكد من جديد أن الأمن القومي مرتبط بالأمن الثقافي، وأن مشكلات الأطفال والفتيان من مشكلات مجتمعهم وأمتهم، وهل علينا أن نؤكد أن مخاطر التبعية الثقافية في ميدان أدب الأطفال والفتيان هي الأشد والأبلغ تأثيراً في احتلال عقل الناشئة العرب، ونحن في هذا لا ندعو إلى إغلاق باب التبادل الثقافي، ولا ندعو إلى الانغلاق على ثقافتنا دون تراث الإنسانية المشرق والمضيء والنافع والأصيل، ولكننا نعاود التوكيد على مجاوزة المعاناة الشديدة التي يعانيها أدب الأطفال والفتيان العرب أمام خطر احتلال عقل الناشئة العرب من ثقافة تندرج في التبعية، ولا تخدم إلا الذين يتاجرون بكل شيء بعد ذلك ولو كانت ثقافة الطفل العربي.‏
لاشك أن الثوابت في مخاطبة الأطفال والفتيان العرب مهددة منذ مطلع الستينيات ولا أدرى إذا كان ذلك يجري في غفلة منا أم في غفلة من الزمن.‏
2ـ4ـ سؤال الهوية القومية:‏
عندما قرر الوزراء المسؤولون عن الشؤون الثقافية في جامعة الدول العربية أن يخصصوا مؤتمرهم بالقاهرة (حزيران 1991م ) لأدب الطفل العربي، فإنهم أكدوا بما لا يدع مجالاً للشك يقظة متأخرة في وعي مكانة أدب الأطفال في البناء الثقافي والوجداني للإنسان من خلال الناشئة وعمليات التنشئة، فلم يسبق لمؤتمرات الوزراء المسؤولين عن الشؤون الثقافية أو اجتماعاتهم أن عالجت، على نحو أساسي قضية أدب الأطفال، ومن الواضح أن هذا المؤتمر لم يعن بهذه القضية في منظوراتها كلها، القومية والتربوية والعقائدية والفنية والتقنية، فقد أتيح لي أن أطلع على وثائق ذلك المؤتمر، وكنت آمل أن يعمق المؤتمر البحث في رؤية واقعية لآفاق تطوير ثقافة الأطفال في الوطن العربي، ولاسيما علاقتها بالهوية القومية، ومواجهة الغزو الثقافي والهيمنة الغربية، بأنماطها الاستهلاكية والإنهاكية للقيم الثقافية العربية كما تتبدى في إغراق السوق العربية، ثقافياً وإعلامياً وتربوياً بمنتجات ثقافة الأطفال المصنعة في دوائر غربية وأجنبية.‏
ثم أعيدت في قطرين عربيين آخرين، أسئلة الهوية القومية في أدب الأطفال، فقد كرس المهرجان الثامن لثقافة الأطفال بالشارقة مجاله الفكري (15-29/2/1992م) لموضوع شديد الصلة بالهوية هو «الطفل والتراث والوطن» توكيداً على منطلقات واضحة في الدور التربوي لثقافة الأطفال من جهة، وفي قابلية هذا الدور التثقيفية في بناء الشخصية العربية من جهة أخرى، وقد برزت هذه المنطلقات في الاعتبارات التالية في بيان ندوة المهرجان التخصصية:‏
1ـ الاستناد إلى التراث العربي الثري كمصدر رئيس لثقافة الطفل باعتباره ينبوع الثقافة الحية ومعيناً لوعي الذات والهوية القومية ليكون أساساً للتنشئة الاجتماعية الهادفة نحو التفتح والانطلاق والإبداع.‏
2ـ مواجهة موجة التغريب الثقافي التي تهدد الأصالة الثقافية لدى الناشئة بتوفير بدائل عملية من خلال برامج متقدمة تقنياً شكلاً ومضموناً.‏
3ـ التوكيد على التراث العربي بمصادره الدينية والتاريخية والأدبية والشعبية والأسطورية، وكشفت الأوراق المقدمة للندوة عن مصادر مهملة في التراث العربي كالألعاب والأسفار والوصايا والرسائل والأخبار والفنون المختلفة، مما يشكل ذخيرة حية لاستعادة التراث العربي في ثقافة الأطفال.‏
4- إقامة مؤسسة عربية لإنتاج وسائل ثقافة الطفل العربي بكافة أشكالها يكون هدفها توحيد الجهود في هذا المجال وتشجيع المبادرات المتميزة في أكثر من بلد عربي.‏
لقد كانت هذه التوجهات والتطلعات مثار حلقة بحث متخصصة أيضاً قبل قرابة ثلاثة عقود من الزمن حول «أدب الأطفال والتراث»، أقامتها منظمة الطلائع بحماة (كانون الأول 1983م)، ومن المفرح أن هذه المبادرة في معالجة هذه القضية الثقافية الهامة قد صارت إلى حالة قومية عامة في مؤتمر الوزراء المسؤولين عن الشؤون الثقافية في الوطن العربي، وفي الندوة التخصصية حول «الطفل والتراث والوطن»، ثم أتيح لي أن أشارك في البيان الختامي للندوة الثقافية المتخصصة لمهرجان الجنادرية السابع للتراث والثقافة (الرياض 14-29/1992م)، وكان موضوع المهرجان لعام 1993 هو أدب الأطفال في إطار الندوة الرئيسية «الموروث الشعبي في العلم العربي وعلاقته بالإبداع الفكري والفني».‏
وشملت الندوة تنظيم عدة فعاليات ثقافية قومية مثل مسابقة ثقافية للأطفال في الأقطار العربية، وإقامة معرض عربي لكتاب الطفل تُدعى إليه دور النشر والمؤسسات العلمية المتخصصة، وإخراج عدد من الكتب والدراسات في شكل نصوص إبداعية للطفل، ودراسات موضوعية عن الأطفال وأدبهم، كما تشمل أعداد «بيبلوغرافيا» شاملة لكل ما كتب عن الطفل وللطفل من الأعمال الأدبية في الوطن العربي، لتكون في متناول الباحثين والقائمين على أمر ثقافة الطفل.‏
إن الاهتمام بالتراث وتأصيله واستلهامه في أدب الطفل العربي، لا يعني الوعي العميق والإدراك القومي والنظرة الثاقبة لمكانة أدب الأطفال في التنشئة السليمة فحسب، بل يفيد بالدرجة الأولى الإجابة عن أسئلة الهوية القومية في أكثر المكونات الصرفية تأثيراً على وجدان الناشئة، ولاشك، أن المكونات الصرفية لا تنقل أو تجتلب، بل ينبغي لها أن تمثل في التقليد الأدبي القومي الذي يضمن السيرورة والفاعلية بغنى موروثاته التي تستجيب لعمليات التلقي المجدي والمشاركة الإيجابية، وهما ضرورة لكل ثقافة حية.‏
الهوامش والإحالات:‏
(1) أنظر على سبيل المثال:‏
* مطبوعات منظمة طلائع البعث (دمشق) حول أدب الاطفال، وهي مؤلفات تضم أبحاثاً لعدة مؤلفين، نذكر منها:‏
- «مكتبة الأطفال وقراءاتهم» (1980م).‏
- «صحافة الأطفال» (1980م).‏
- «مسرح وسينما الأطفال» (1980م).‏
- «أدب الأطفال في وسائل الاتصال بجماهير الأطفال» (1982م).‏
- «أدب الأطفال والتراث» (1984م).‏
- «جمهور الأطفال والثقافة» (1985م).‏
- «الثقافة العلمية للأطفال» (1989م).‏
* منشورات مركز تنمية الكتاب العربي في الهيئة المصرية العامة للكتاب (القاهرة) وهي مؤلفات تضم أبحاثاً لعدة مؤلفين أيضاً، نذكر منها:‏
- «كتاب الطفل» (1979م).‏
- «لغة الكتابة للطفل» (1981م).‏
- «مكتبة الأطفال» (1981م).‏
- «كتب الأطفال ومجلاتهم في الدول المتقدمة» (1985م).‏
- جعفر، د.عبد الرزاق: «أدب الأطفال»، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1979م.‏
- الحديدي، د.علي: «في أدب الأطفال»، منشورات مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ط2، 1976م.‏
- اسكاربيك، دونيز: «أدب الأطفال والشباب»، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1988م.‏
(2) أنظر على سبيل المثال أيضاً:‏
- أبوهيف، عبدالله: «أدب الأطفال نظرياً وتطبيقياً»، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1983م.‏
- نجيب، أحمد: «في الكتابة للأطفال»، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة 1968م.‏
- الهيتي، د.نعمان: «أدب الأطفال: فلسفته، فنونه، وسائطه»، منشورات الإعلام، بغداد 1977م.‏
- الفيصل، سمر روحي: «مشكلات قصص الأطفال في سورية»، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1981م.‏
(3) هناك آراء مختلفة حول هذه القضية في كتابي:‏
- سعيد، د. نفوسة زكريا: «خرافات لافونتين في الأدب العربي»، مؤسسة الثقافة الجامعية، الاسكندرية، 1976م.‏
ـ الفيصل، سمر روحي: «ثقافة الطفل العربي»، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1988م.‏
(4) أدب الأطفال نظرياً وتطبيقياً، مصدر سابق.‏
(5) انظر العدد الخاص والممتاز بأدب الأطفال في سورية: «الموقف الأدبي»، دمشق، العدد 208، 209، 210، تشرين الأول 1988م، السنة18.‏

المصدر
http://www.awu-dam.org/book/01/study...ok01-sd003.htm













التوقيع
تكون .. أو لا تكون .. هذا هو السؤال