منتديات اليسير للمكتبات وتقنية المعلومات » منتديات اليسير الاجتماعية » استراحة المكتبيين والمعلوماتيين » هــام لكل من أراد وجه الله عند نشر علمه

استراحة المكتبيين والمعلوماتيين فضاء رحب من المتعة والفائدة معاً ضمن ضوابط المنتدى.

إضافة رد
أدوات الموضوع تقييم الموضوع انواع عرض الموضوع
 
قديم Nov-06-2007, 08:11 AM   المشاركة1
المعلومات

فجر
مشرفة سابقة

فجر غير متواجد حالياً
البيانات
 
العضوية: 35155
تاريخ التسجيل: Oct 2007
الدولة: السعـوديّة
المشاركات: 759
بمعدل : 0.13 يومياً


سهم هــام لكل من أراد وجه الله عند نشر علمه

الإخلاص: دِراسةٌ اصطلاحيّةٌ للأُسس والثمرات</SPAN> د. محمد عمر دولة*

2004-04-05
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد، فإنَّ الإخلاصَ أساسُ الأعمالِ وسبيلُ النجاحِ في الدنيا والفلاحِ في الآخرة؛ فلا تُقبَل الأعمالُ، ولا تُصلَح الأحوالُ؛ إلا بالإخلاصِ للهِ ربِّ العالمين. ولكنْ ما هو الإخلاص؟
[1] إنَّ الإخلاصَ كلمةُ التوحيد التي تتفرَّعُ منها فروعُ الخيرِ كلُّها، كما قال الله عزَّ وجل: (ألم ترَ كيف ضربَ اللهُ مثلاً كلمةً طيِّبةً كشجرةٍ طيِّبةٍ أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السماء تُُُُُُُُُؤتي أُكلَها كلَّ حِينٍ بإذن ربِّها).[1] قال القرطبي: "قال ابن عباس: الكلمة الطيبة: لا إله إلا الله، والشجرة الطيبة: المؤمن... فيجوز أن يكون المعنى: أصلُ الكلمة في قلبِ المؤمن وهو الإيمانُ شبَّهَهُ بالنخلةِ في المَنبَت، وشبَّهَ ارتفاعَ عَملِه في السماء بارتفاعِ فُروعِ النخلةِ، وثوابَ الله له بالثمر".[2]
[2] ولعل الدلالة اللغوية للإخلاص تتفقُ مع المعاني الاصطلاحية التي ذكرها العلماءُ عليهم رحمة الله في تعريف الإخلاص؛ إذْ إنَّ لفظَ (الإخلاص) يدور في اللغةِ على (التنقية) و(التهذيب)، كما قال ابنُ فارس: "الخاءُ واللامُ والصادُ أصلٌ واحدٌ مُطَّرِدٌ، وهو تنقيةُ الشيءِ وتهذيبُه".[3] وفي الاصطلاحِ تدورُ غالِبُ عِباراتِ العلماءِ كذلك مع اختلافِ الألفاظِ على أنَّ الإخلاصَ توحيدُ اللهِ تعالى، وتنقيةُ القلبِ مِن حُظوظ النفسِ، والعملِ من مُلاحظةِ الناس. فقد جمعَ تعريفُ الإخلاصِ أساساً عَقَدِيّاً ونَفسيّاً واجتِماعيّاً.
[3] فأما كونُ الإخلاصِ توحيداً لله تعالى: فقد قال القشيري رحمه الله: "الإخلاصُ إفرادُ الحقِّ سبحانه في الطاعة بالقصد، وهو أن يريد بطاعتِه التقرُّبَ إلى الله سبحانه دون شيءٍ آخر: من تصنُّعٍ لمخلوقٍ، أو اكتساب صفةٍ حميدةٍ عند الناس، أو محبة مدحٍ من الخلق، أو معنى من المعاني سوى التقرُّب إلى الله تعالى... وقال أبو عثمان الحِيري: الإخلاصُ نسيانُ رُؤيةِ الخَلْقِ بدوامِ النَّظرِ إلى الخالِق، وقيل: الإخلاصُ ما أُريد به الحقُّ سبحانه وقُصِد به الصِّدقُ".[4] فهذا ما يتعلقُ بالتوحيد.
[4] وأما تصفيةُ القلبِ مِن حُظوظ النفسِ، فالمرادُ منه أن لا يكونَ للنفسِ نصيبٌ في الأعمال؛ بحيث يتخلَّصُ مِن كلِّ شائبةٍ، كما قال "أبو عثمان النهدي: الإخلاصُ ما لا يكون للنفسِ فيه حَظٌّ بحالٍ، وهذا إخلاصُ العوام، وأما إخلاصُ الخواص فهو ما يجري عليهم لا بهم؛ فتبدو منهم الطاعاتُ وهم عنها بمعزل ولا يقع لهم عليها رؤيةٌ ولا بها اعتدادٌ، فذلك إخلاصُ الخواص. وقال أبو بكر الدقاق: نقصانُ كل مُخْلِصٍ في إخلاصِه رؤيةُ إخلاصِه؛ فإذا أراد الله تعالى أن يخلص إخلاصه سقط عن إخلاصِه رؤيتُه لإخلاصِه؛ فيكون مُخلَصاً لا مُخلِصاً... وقال ذو النون المصري: ثلاثٌ من علامات الإخلاص: استواءُ المدحِ والذم، ونسيانُ رؤية الأعمال في الأعمال، ونسيانُ اقتضاءِ ثوابِ العملِ في الآخرة، قال سهل بن عبد الله: لا يعرف الرياءَ إلا مُخلِصٌ... وقال حذيفة المرعشي: الإخلاصُ أن تستويَ أفعالُ العبد في الظاهر والباطن... وقيل: الإغماضُ عن رؤيةِ الأعمال... وقال الجنيد: الإخلاصُ سرٌّ بين اللهِ والعبدِ، ولا يعلمه ملَكٌ فيكتبه، ولا شيطانٌ فيُفسده، ولا هوى فيُميله. وقال رويم: الإخلاصُ من العمل هو الذي لا يريد صاحبه عليه عِوَضاً في الدارين ولا حظّاً من الملَكين. وقيل لسهل بن عبد الله: أيُّ شيءٍ أشدُّ على النفس؟ فقال: الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب".[5] وهذا ظاهرٌ في التخلُّص من حظوظِ النفسِ.
[5] وأما تنقيةُ العملِ من مُلاحظةِ الناس: فالمرادُ به أن لا يكون الغرضُ إرضاءَ الناسِ وكسبَ مدحِهم وإعجابِهم، كما قال القشيري: "يصحُّ أن يُقال: الإخلاصُ تصفيةُ الفعلِ عن مُلاحظةِ المَخلوقين... سمعتُ الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: الإخلاصُ التَّوقِّي عن مُلاحظةِ الخلقِ، والصِّدقُ التَّوقِّي عن مُلاحظةِ النفس؛ فالمخلصُ: لا رياءَ له، والصادقُ: لا إعجابَ له... وقال ذو النون المصري: الإخلاصُ ما حُفِظَ مِن العدوِّ أن يُفسِدَه، يقول السَّرِي السقطي: مَن تزيَّنَ للناسِ بما ليس فيه؛ سقطَ من عَينِ الله تعالى... وسئل بعضُهم عن الإخلاص فقال: أن لا تُشهِدَ على عملِك غيرَ الله عزَّ وجلَّ".[6] وهذا القسمُ الثالثُ هو المعنى المشهورُ المُتبادرُ من معاني الإخلاص.
[6] ولكنْ لا يخفى أنه لا يمكن الفصلُ بين هذه الأُسُسِ الاصطلاحية الثلاثة التي يقوم عليها الإخلاصُ؛ باعتبارِه توحيداً للهِ تعالى، وتنقيةً للقلبِ مِن حُظوظ النفسِ، والعملِ من مُلاحظةِ الناس؛ إذ لا يمكنُ فصلُ البُعدِ الاعتقادي في ديننا عن البعد النفسي والاجتماعي إلا من الناحية النظرية.
[7] ومن هنا نرى أنَّ بعضَ العلماء قد جمعَ في تعريفِه للإخلاصِ بين مُراعاةِ هذه الأُسُسِ؛ فأحسنَ أيَّما إحسان، وتلقَّى العلماءُ تعريفَه بالقبول والاستحسان، وهو قولُ الفضيل بن عياض رحمه الله: "تركُ العملِ من أجلِ الناسِ رِياءٌ، والعملُ مِن أجلِ الناسِ شِرْكٌ، والإخلاصُ أن يُعافيَك اللهُ منهما".[7] فأشار بذكر الرِّياء إلى تنقيةِ النفس، وبالشِّرك إلى تنقية التوحيد، وبأداءِ العمل وتركِه من أجل الناس إلى تنقيةِ العمل. فما أجمعَ هذا التعريفَ وأروعَه!
[8] ولعلَّ استحضارَ هذه الأُسُس يفتح لنا باباً واسِعاً من إدراكِ معاني الإخلاص إدراكاً صحيحاً؛ فإنَّ (الإخلاصَ) للهِ ربِّ العالمين مدرسةٌ تربويةٌ شامِلة، ومَوسوعةٌ أخلاقيةٌ مُتكامِلة؛ تتضمَّنُ طائفةً مِن شُعب الإيمانِ وجملةً من الخِصال الكريمة والآداب العظيمة.
[9] فـ(الإخلاص) هو المعيارُ الصحيحُ الذي تُوزَن به القِيَمُ وتُقاسُ به الأعمالُ، كما قال صاحبُ الظلال؛ مُبَيِّناً أثرَ غيابِ الإخلاصِ في حُصولِ الفسادِ واختلالِ المَوازين في تفسير قولِ الله تعالى: (ألا إنهم هم المفسِدُون ولكنْ لا يشعرون)[8]: "الذين يُفسِدون أشنعَ الفساد، ويقولون: إنهم مُصلِحون كثيرون جدّاً في كل زمانٍ؛ يقولونها لأن الموازين مُختلةٌ في أيديهم. ومتى اختلَّ ميزانُ الإخلاص والتجرد في النفس اختلت سائرُ الموازين والقيم؛ والذين لا يُخلصون سريرتَهم لله يتعذرُ أن يشعروا بفسادِ أعمالِهم؛ لأن ميزانَ الخيرِ والشرِّ والصلاحِ والفسادِ في نفوسِهم يتأرجحُ مع الأهواء الذاتية ولا يثُوب إلى قاعدةٍ ربّانية".[9]
[10] والإخلاصُ بهذا الفهم الواسِعِ يُنمِّي الإيمانَ ويُنقِّي العقيدة ويُزكِّي الوِجدان، ويُهذِّب الملكاتِ الفكرية والنفسية والعلاقات الاجتماعية. وهذا مِن معاني قولِ الله عزَّ وجلَّ: (قُلْ إنَّ صلاتِي ونُسُكي ومَحياي ومماتي لله ربَِّ العالمين لا شريك له).[10] "إنه التجرُّدُ الكاملُ لله، بكلِّ خالجةٍ في القلب وبكلِّ حركةٍ في الحياة: بالصلاة والاعتكاف، وبالمحيا والممات، بالشعائر التعبدية، وبالحياة الواقعية، وبالممات وما وراءه؛ إنها تسبيحةُ (التوحيد) المطلق والعبودية الكاملة، تجمع الصلاةَ والاعتكافَ والمحيا والممات، وتُخلِصها لله (ربِّ العالمين) القوَّام المهيمن المتصرِّف المربِّي الموجِّه الحاكم للعالمين.. في (إسلامٍ) كاملٍ لا يستبقي في النفسِ ولا في الحياةِ بقيَّةً لا يُعبِّدُها لله، ولا يحتجز دونه شيئاً في الضميرِ ولا في الواقع".[11]
[11] فليس الإخلاصُ فرعاً من الفُروع، يتفقَّدُه المسلم في صلاتِه هل خَلُصَتْ من الرياء أم لا؟ بل هو أحدُ الأصلَيْن العظيمَيْن اللَّذَيْن قام عليهما صَرْحُ هذا الدِّين، كما قال أهلُ العلم: "لا يكون العبدُ متحقِّقاً بـ(إياك نعبد) إلا بأصلَيْن عظيمين: أحدهما: متابعة النبيr والثاني: الإخلاصُ للمعبود"؛[12]
[12] فقد ذكر العلامة ابنُ القيم رحمه الله أنَّ المُخلِصين "أعمالُهم كلُّها لله، وأقوالُهم لله، وعطاؤهم لله، ومنعُهم لله، وحبُّهم لله، وبُغضُهم لله؛ فمعاملتُهم ظاهراً وباطناً لوجهِ الله وحدَه لا يريدون بذلك من الناسِ جزاءً ولا شكوراً، ولا ابتغاءَ الجاهِ عندَهم، ولا طلبَ المحمدةِ والمنزلة في قلوبِهم، ولا هرباً من ذمِّهم. بل قد عَدُّوا الناسَ بمنزلةِ أصحابِ القبورِ؛ لا يملكون لهم ضرّاً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نُشوراً. فالعملُ لأجلِ الناسِ وابتغاء الجاهِ والمنزلة عندهم ورجائهم للضرِّ والنفعِ منهم لا يكون من عارِفٍ بهم البتة؛ بل من جاهلٍ بشأنِهم وجاهلٍ بربِّه؛ فمن عرفَ الناسَ أنزلَهم مَنازلَهم، ومن عَرفَ اللهَ أخلصَ له أعمالَه وأقوالَه وعطاءَه ومنعَه وحُبَّه وبُغضَه".[13]
[13] ولما كان(الإخلاص) بهذا المعنى مَوسُوعةً أخلاقيةً؛ فإنَّ الصدقَ والوفاءَ والبِرَّ والأمانةَ تنبع كلُّها من الإخلاصِ. بل إنَّ سائرَ مكارمِ الأخلاق تتصل بالإخلاص اتصالاً وثيقاً، وترتبط به ارتباطاً عميقاً. وقد ظهر ذلك في حديث هرقل وهو يسأل أبا سفيان بعد الحديبية عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ليختبر حقيقةَ رسالتِه وصدقَ دعوتِه؛ فبَيَّن أنَّ للإخلاص ثمراتٍ عظيمةً.
[14] منها: أنَّ صاحبَ الإخلاصِ ليس إمَّعةً يسمع الناسَ يقولون قولاً فيقول مثلَه، كما قال هرقل: (سألتُك: هل قال أحدٌ منكم هذا القولَ؟ فذكرت أن لا، فقلتُ: لو كان أحدٌ قال هذا القولَ قبلَه؛ لقلتُ رجلٌ يأتسي بقولٍ قِيلَ قبلَه). [14] بل له عقلٌ مستقِلٌّ يهتدي بنورِ الله عز وجل.
[15] ومنها: أنَّ المخلصَ رجلٌ لا يُعاني من حُبِّ الرئاسة وطلبِ المُلْك؛ فليس له همومٌ شخصيّةً في السياسةِ. وقلَّما يَسْلَم طالبُ المُلكِ من أغراضِ النفسِ وغوائلِ السلطان ومَكامنِ الشيطان، وهذا من إشاراتِ قول هرقل: (وسألتُك: هل كان مِن آبائه من ملِك؟ فذكرتَ أن لا؛ قلتُ: فلو كان من آبائه من ملك قلتُ: رجلٌ يطلُب مُلكَ أبيه). لاسيما وقد أتبع ذلك بسؤالٍ عن الكذب، فقال: (وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرتَ أن لا؛ فقد أعرفُ أنه لم يكنْ ليذرَ الكذبَ على الناس ويكذبَ على الله)؛ ويؤكِّدُ ذلك قولُ أبي سفيان لما سأله هرقل: (قال: فهل يغدر؟) فكان جوابُ أبي سفيان: (قلتُ: لا، ونحنُ منه في مُدةٍ لا ندري ما هو فاعلٌ فيها. قال: ولم تُمْكِنِّي كلمةٌ أُدخِلُ فيها شيئاً غيرُ هذه الكلمة)؛ ففي هذا دلالةٌ على أنه قلَّما ينجو أهلُ السياسةِ من الوُقوعِ في الكذب؛ سواءً في إخلالِهم بالوُعود أو إخلافِهم للعهود أو تضييعِهم للأمانات. وهذا مُشاهَدٌ اليومَ في بلادِ المسلمين. والله المستعان.
[16] ومن الثمرات كذلك: البُعدُ عن الأطماعِ والسلامة من الفتن والثباتُ على الدين، كما قال: (وسألتك: أشرافُ الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرتَ أنَّ ضعفاءهم اتبعوه؛ وهم أتباع الرسل. وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرتَ أنهم يزيدون؛ وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك: أيرتدُّ أحدٌ منهم سخطةً لدينه بعد أن يدخلَ فيه؟ فذكرتَ أن لا؛ وكذلك الإيمان حين تُخالِطُ بشاشتُه القلوب).
[17] ومن ثمراتِ الإخلاصِ كذلك: البرُّ والوفاء وحسنُ الصحبة وطِيبُ العِشْرَة ولينُ الجانب، وكل ذلك من إشاراتِ قولِ هرقل في الحديثِ: (وسألتُك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا؛ وكذلك الرسل لا تغدر). ولعمري إنَّ المخلِصَ للهِ لا يغدرُ؛ ولذلك جاء الغدرُ في صفاتِ المنافقين.
[18] ومن الثمرات الجليلة للإخلاصِ: صدقُ التوحيد، والبُعدُ عن الشرك، والمحافظة على العبادات لاسيما الصلوات، والتخلق بالصدق والعفاف وتوابع ذلك من النواحي الاجتماعية، وكل ذلك مأخوذٌ من قوله: (وسألتك: بِمَ يأمركم؟ فذكرتَ أنه يأمرُكم أن تعبدوا الله ولا تُشرِِكوا به شيئا وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف).
[19] ومن الثمرات العظيمة: أنَّ إخلاصَ النيةِ يُبارك العلمَ؛ ويخلِّصه من الشوائب، ويجعله نافعاً مبارَكاً، كما قال عون بن عمارة: "سمعتُ هشاماً الدستوائي يقول: واللهِ ما أستطيعُ أن أقولَ: إني ذهبتُ يوماً قط أطلبُ الحديثَ أُريد به وجهَ الله عز وجل". قال الإمام الذهبي رحمه الله مُعلِّقاً على قول هشام الدستوائي: "واللهِ ولا أنا؛ فقد كان السلف يطلبون العلمَ لله؛ فنبلوا وصاروا أئمةً يُقتدى بهم، وطلبَه قومٌ منهم أولاً لا للهِ وحصَّلوه ثم استفاقوا وحاسَبوا أنفسَهم؛ فجرَّهم العلمُ إلى الإخلاص في أثناء الطريق، كما قال مجاهد وغيره: طلبْنا هذا العلمَ وما لنا فيه كبيرُ نيةٍ ثم رزقَ اللهُ النيةَ بعدُ، وبعضُهم يقول: طلبْنا هذا العلمَ لغير الله فأبى أن يكونَ إلا لله. فهذا أيضاً حسنٌ، ثم نشروه بنيةٍ صالحة. وقومٌ طلبوه بنيةٍ فاسدةٍ لأجل الدنيا، وليُثنَى عليهم؛ فلهم ما نوَوا، قال عليه السلام: (مَن غزا ينوي عقالاً؛ فله ما نوى) [رواه أحمد والدارمي والنسائي]. وترى هذا الضربَ لم يستضيئوا بنور العلمِ ولا لهم وقعٌ في النفوس، ولا لعلمِهم كبيرُ نتيجةٍ من العمل؛ وإنما العالمُ مَن يخشى اللهَ تعالى، وقومٌ نالوا العلمَ ووَلُوا به المناصب؛ فظلموا وتركوا التقيُّدَ بالعلم وركبوا الكبائرَ والفواحشَ؛ فتباًّ لهم فما هؤلاء بعلماء! وبعضُهم لم يتقِ الله في علمِه، بل ركبَ الحِيَلَ وأفتى بالرُّخَص وروى الشاذَّ من الأخبار، وبعضُهم اجترأ على الله ووضعَ الأحاديثَ فهتكه الله وذهبَ علمُه وصار زادَه إلى النار. وهؤلاء الأقسامُ كلُّهم رَوَوا مِن العلم شيئاً كبيراً، وتضلَّعوا منه في الجملة، فخلفَ من بعدِهم خلفٌ بان نقصُهم في العلم والعمل، وتلاهم قومٌ انتمَوا إلى العلم في الظاهر، ولم يُتقنوا منه سوى نزرٍ يسيرٍ؛ أوهموا به أنهم عُلماء فُضلاء، ولم يَدُرْ في أذهانِهم قط أنهم يتقربون به إلى الله؛ لأنهم ما رأوا شيخاً يُقتدى به في العلم؛ فصاروا همجاً رعاعاً، غاية المدرس منهم أن يُحصِّل كتباً مثمنةً يخزنها وينظر فيها يوماً ما؛ فيُصحِّف ما يُورده ولا يُقرِّره؛ فنسأل اللهَ النجاةَ والعفوَ، كما قال بعضُهم: ما أنا عالمٌ ولا رأيتُ عالماً. وقال رجلٌ لابن الجوزي رحمه الله: ما نمتُ البارحةَ مِن شوقي إلى المجلس؛ قال: لأنك تريد الفُرجة؛ وإنما ينبغي الليلةَ أن لا تنام".[15]
[20] وأخيراً فإنَّ الإخلاصَ يؤدِّي إلى حُسنِ الخاتمة، كما أنه يحفظ صاحبَه في الدنيا من الفتنة؛ فهو بهذا المعنى يَقِي الإنسانَ من فِتنة المحيا والممات! ورحم الله أبا زرعة الرازيَّ؛ فقد سُئل في مرضِ مَوتِه عن حديثِ (من كان آخرُ كلامِه لا إله إلا الله؛ دخل الجنة)، فذكر أبو زرعة الحديث؛ حتى إذا بلغ (لا إله إلا الله) فاضتْ روحُه![16] فمن عاشَ على الإخلاصِ؛ يمنُّ الله عليه بأن يُميتَه عليه. ولله درُّ الذهبي حيث قال: "فأخْلِصْ تُفلحْ؛ وتمنَّ دائماً وأبداً صَفاءَ النية، قال أبو يزيد البسطامي رحمه الله: لو صَفا لي تهليلةٌ ما باليتُ بعدَها. وسَلِ اللهَ أن يُعافيَك مِن سُوء النية؛ فإنَّ عاقبةَ ذلك وَخِيمةٌ جدا... واعلمْ أن العملَ كلَّه هباءٌ إلا بالإخلاص، وأن ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل؛ فاصدُق النيةَ مع الله تعالى؛ فمن صَدَقَ اللهَ علا، قال سفيان بن عيينة رحمه الله: ما أخلصَ عبدٌ لله أربعين يوماً إلا أنبتَ اللهُ الحكمةَ في قلبِه نباتاً وأنطقَ لسانَه بها، وبصَّرَه عُيوبَ الدنيا: داءها ودواءها؛ وهذه ثمرةٌ من ثمرات الإخلاص. سُئل حمدون القصار: ما بالُ كلامِ السلف أنفع من كلامِنا؟ فقال: لأنهم تكلموا لعزِّ الإسلام ونجاةِ النفوسِ ورضا الرحمن؛ ونحن نتكلم لعزِّ النفوسِ وطلبِ الدنيا ورضا الخلق"![17]

--------------------------
[1] إبراهيم24-25.
[2] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي9/359.
[3] معجم مقاييس اللغة لابن فارس2/208. دار الكتب العلمية بيروت.
[4] الرسالة للقشيري ص207-208.
[5] المرجع السابق ص208-209.
[6] الرسالة للقشيري ص207-210.
[7] المرجع السابق ص209.
[8] البقرة 12.
[9] في ظلال القرآن 1/44.
[10] الأنعام 162.
[11] في ظلال القرآن 8/1240-1241.
[12] مدارج السالكين لابن القيم 1/83.
[13] المرجع السابق.
[14] رواه البخاري في آخر كتاب (بدء الوحي).
[15] سير أعلام النبلاء، للذهبي: ترجمة هشام بن عبد الله الدستوائي، وقد استفدتُ العبارةَ تامَّةً من مقال الشيخ محمد توم (الإخلاص ثمرةُ المعرفة).
[16] ذكره القرطبي في التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة ص 35-36. دار الريّان القاهرة. ط2. 1407هـ.
[17] ترجمة هشام بن عبد الله الدستوائي من (سير أعلام النبلاء).












التوقيع
أنني ذاتي
إنني فقط ذاتي
وعلى يقين بأن ذاتي تكفيني
  رد مع اقتباس
قديم Nov-06-2007, 11:02 AM   المشاركة2
المعلومات

ابونوره
مكتبي جديد

ابونوره غير متواجد حالياً
البيانات
 
العضوية: 35295
تاريخ التسجيل: Oct 2007
الدولة: السعـوديّة
المشاركات: 9
بمعدل : 0.00 يومياً


افتراضي




بارك الله فيك اختي مانديللا و نفع بك و بما نقلتيه لنا

اللهم ارزقنا الإخلاص في القول و العمل


ابونوره














  رد مع اقتباس
قديم Nov-06-2007, 01:16 PM   المشاركة3
المعلومات

حسن علي العلياني
مكتبي متميز

حسن علي العلياني غير متواجد حالياً
البيانات
 
العضوية: 34546
تاريخ التسجيل: Oct 2007
الدولة: السعـوديّة
المشاركات: 370
بمعدل : 0.06 يومياً


افتراضي لك

مي جزيل الشكر والعرفان ويعطيك العافية












الصور المرفقة
نوع الملف: jpg %CD%D3%E4.jpg‏ (62.7 كيلوبايت, المشاهدات 1)
التوقيع
الله يرحمك ياوالدي وموتى المسلمين
  رد مع اقتباس
قديم Nov-06-2007, 04:51 PM   المشاركة4
المعلومات

العجيل
مكتبي مثابر

العجيل غير متواجد حالياً
البيانات
 
العضوية: 20659
تاريخ التسجيل: Sep 2006
الدولة: ليبيــا
المشاركات: 34
بمعدل : 0.01 يومياً


افتراضي

الله يكرمك يا دكتور.
جزاك الله خيرا












التوقيع
اللهم صل على سيدنا محمد وآله
اللهم صل على سيدنا محمد بن عبد الله ما ضاقت إلا فرجها الله
يارب هون عليا
http://www.alertqaa.alasmri.net
  رد مع اقتباس
قديم Nov-10-2007, 08:45 AM   المشاركة5
المعلومات

فجر
مشرفة سابقة

فجر غير متواجد حالياً
البيانات
 
العضوية: 35155
تاريخ التسجيل: Oct 2007
الدولة: السعـوديّة
المشاركات: 759
بمعدل : 0.13 يومياً


افتراضي

شكرا لكل من أثنى على طرحي..
شكرا لمرورك أخي العجيل
شكرا لك أخي حسن
شكرا أخي ابو نورة












التوقيع
أنني ذاتي
إنني فقط ذاتي
وعلى يقين بأن ذاتي تكفيني
  رد مع اقتباس
قديم Jan-01-2008, 04:35 PM   المشاركة6
المعلومات

علي عنتر
مكتبي متميز

علي عنتر غير متواجد حالياً
البيانات
 
العضوية: 38994
تاريخ التسجيل: Dec 2007
الدولة: الجـزائر
المشاركات: 313
بمعدل : 0.05 يومياً


ممتاز

نفعنا الله بك يا الأخت مانديلا













  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
قائمة كتب حديثه التكنولوجي النشط عروض الكتب والإصدارات المتخصصة في مجال المكتبات والمعلومات 37 Dec-31-2016 06:00 PM
القيادة في المكتبات ومراكز المعلومات ابراهيم محمد الفيومي عروض الكتب والإصدارات المتخصصة في مجال المكتبات والمعلومات 15 Aug-06-2016 06:47 AM
الوصف الكامل لرسول الله صلى الله عليه وسلم هدى العراقية منتدى الدروس النموذجية 24 Apr-23-2008 07:54 PM
فن التعامل مع الناس السايح منتدى الدروس النموذجية 3 Jun-03-2006 08:01 AM


الساعة الآن 12:12 AM.
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. جميع الحقوق محفوظة لـ : منتديات اليسير للمكتبات وتقنية المعلومات
المشاركات والردود تُعبر فقط عن رأي كتّابها
توثيق المعلومة ونسبتها إلى مصدرها أمر ضروري لحفظ حقوق الآخرين